كان صاحب هذه السيرة/الشهادة محققًا في “ديوان الحسبة” خلال فترة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مدينة الرقة السورية. تشير إلى ذلك وتؤكده محاضر تحقيق مكتوبة وموقعة باسمه، وتسجيلات بصوته، حصل عليها “متحف سجون داعش”.
اسمه الحركي “أبو سيف” أو “أبو سيف مقصّ”، وبعض المعتقلين السابقين ممن استجوبهم وحقق معهم، أطلقوا عليه اسم “المجرم”، لممارسته العنف أو التعذيب خلال جلسات التحقيق، أو خلال عمله كمتحري. ونتحفظ في هذا النص على ذكر اسمه الصريح، التزاماً بمعايير الأخلاقيات الصحفية.
بايع “أبو سيف”، المولود في الرقة عام 1990 تنظيم الدولة، وانضم إلى صفوفه عام 2015، وفي سن الـ 25 عاماً مارس، إلى جانب عناصر التنظيم، الترهيب والتسلط والتعذيب على أبناء مدينته، ولعل أسباب ودوافع ذلك تختبئ في جوانب كثيرة من سيرة حياته التي ننقل على لسانه في هذا النص أجزاء منها.
عقب خروج التنظيم من الرقة، اعتقل “أبو سيف”، في أحد سجون “الإدارة الذاتية” شمال شرقي سوريا، وهناك أجرينا معه لقاءً مطولاً ومسجلاً بالفيديو، كان الهدف الأساسي منه تحقيق المزيد من الخوض في عالم “داعش”، والحصول على معلومات إضافية عن السجون التي عمل بها، وطبيعة نشاط “ديوان الحسبة” آنذاك، ومستوى تدخله في حياة المدنيين. كما عاد محاور “أبو سيف” معه في الزمن إلى الوراء، لاستكشاف تاريخه، وسيرة حياته منذ الطفولة.
النص التالي، منقول على لسان “أبو سيف” بالكامل، ولعل مردّ التشديد في التنصل هنا، مرتبط في التشكيك بالكثير من الروايات التي سردها، لعدم تطابقها مع شهادات عشرات المعتقلين السابقين عنه، أو لتناقض المعلومات التي قدمها في مواضع مختلفة من الحوار، ومن جانب آخر، لم يكن من الممكن التأكد من صحة بعض ما ورد فيها.
يتدرج النص في سيرة “أبو سيف” منذ ما قبل “داعش”، أي من مرحلة طفولته، إلى شبابه حين جند في الخدمة الإلزامية مع قوات النظام السوري، ثم انتسابه لتنظيم الدولة، وعمله معه، وصولاً إلى اعتقاله على يد “قوات سوريا الديمقراطية”.
يكشف الحوار التالي عن جوانب كثيرة من تغوّل “داعش” في المجتمعات التي سيطر عليها، وعن آلية عمل “ديوان الحسبة” وتراتبيته وهيكليته، كما يقدم نموذجاً عن شخصية عنصر “التنظيم” أو ما يشاع تسميته بـ “الداعشي”، الذي غالباً ترتبط سيرة حياته وسماته النفسية، بمسار حياته ومصيره كسجان قاسٍ أو محقق غاضب أو منفذ أحكام تعذيب وقتل.
|
---|
في مقتطفات من سيرته السابقة على انتسابه إلى “داعش”، روى “أبو سيف” أن عائلته استقرت في قرية بريف الرقة، بعد فرار جده من قريته وموطنه العشائري هرباً من ثأر عشائري. حينها، كانت العائلة لا تملك أي أرض، وفي العام 2002 تقريبًا، أي عندما كان عمره 12 سنة، بدأ العمل مع أهله كمزراعين مياومين بأجر في أحد الأراضي، وكانت حالتهم المادية سيئة. بعد العام 2006، عمل “أبو سيف” طيّانًا في ورش بناء، ومن ثم جُنّد في الخدمة العسكرية الإلزامية في جيش النظام السوري سنة 2009.
حين نقل إلى دمشق لأداء “خدمة العلم” كان “أبو سيف” يحمل تقريرًا طبيًا يفيد أن حوالي خمس أو ست عمليات جراحية أجريت له في صدره قبل ثلاث سنوات، لذا صُنِّف في فئة المصابين بأمراض مزمنة، وأُلحِق بمقر أركان الجيش في منطقة يعرفها الناس بهذا الاسم في العاصمة السورية. خدم في ذلك المقر قرابة شهرين. وعندما وقع مرة أثناء الخدمة، أصيب بكسور في عظامه، فحُوِّل إلى مستشفىً عسكري، حيث وُضعتْ صفائح معدنية في جسمه. لاحقاً خاض الشاب عراكاً مع مجندين آخرين، فأبصرت عراكَهم ضابطة، وصرختْ بهم. وربما لأن الأمر جاء من امرأة “أصابتني نوبة عصبية”، قال أبو سيف، وتابع “اندفعتُ لضربها، فاعتُقلتُ. كان مرضي مصدر غضبي، وشخصوا في المصح إنني مصاب بصدمة. لذا سُجنت 16 يومًا فقط ومُدّدت خدمتي العسكرية أربعة أشهر، بدلاً من تحويلي إلى سجن تدمر العسكري”.
مع انطلاق الثورة السورية كان أبو سيف لا يزال مجنداَ، وشارك إلى جانب عناصر وقوات النظام في قمع المتظاهرين. عن تلك الفترة يقول: “كنتُ مؤيدًا للنظام السوري ضد المحتجين عليه، لأنني كنتُ جنديًا في جيشه، ورأيتُ كل شيء؛ اتهام المحتجين والمتظاهرين الجيشَ بأنه ضربَ وقتل… وصراحةً [وهذه الكلمة رددها الراوي كثيرًا وجعلها لازمة في مواضع وسياقات تفوق الإحصاء في حواره] لم يأمرنا النظام بضرب المدنيين، ولا بإطلاق النار عليهم. أساساً لم تكن لدينا الذخيرة، ولا حتى طلقة واحدة. فكان المتظاهرون يستفزوننا أو يشتموننا قائلين: أنتم كلابٌ وسوى ذلك من الشتائم. ومرة قلت للضابط: اعطني أوامر، أعطني أي شيء، ولو عصاً، فأقفز عن السور وأكسّرهم”.
بعد تسريحه من خدمته الإلزامية، وقبل انضمامه إلى “داعش”، حاول “أبو سيف” العودة إلى ممارسة عمله السابق طيّانًا أو عامل بناء. لكنه لم يستطع. كان بدينًا وبلغ وزنه 130 كيلو جراماً تقريباً، إضافة إلى العمليات الجراحية القديمة والكسور في عظامه.
يسخر الراوي خلال حديثه عن تلك الفترة من الكتائب العسكرية التي نشأت بعد الحراك الشعبي السلمي العريض ضد النظام السوري. أما الجيش الحر “فبصراحة لم أقتنع به” يقول، “وأنا رجل أرضتني الدولة الإسلامية لما جاءت ورأيتها، فبايعتها. قد لا أُصَدَّقُ حين أقول إنني فعلتُ ذلك من أجل المال. في السابق كنت عاملًا مياومًا، وأجرتي اليومية 200 ليرة سورية (حوالي ثلاثة دولارات أمريكية في ذلك الوقت)، وبيتنا مساحته 100 م2، ونحن خمسة شبان وثلاث بنات، ولا نملك أرضًا زراعية، فماذا أفعل؟!”. وهنا انقلبت صيغة كلامه من ضمير المتكلم إلى صيغة المخاطب، فقال: “ويأتي تنظيم الدولة، فيعطيك. يعطيك منحة مالية. ويعطيك بيتًا وأشياء أخرى. فتتشجع وتبايعه”.
وفي تبرير التحاقه بـ”داعش”، قال “أبو سيف” مخاطبًا نفسه متسائلًا ومجيبًا في مونولوج ذاتي، أو كأنه يحادث نفسه بصيغة الغائب: “إذا أردتَ الذهاب للعمل في لبنان، لا تستطيع. فهناك يسألونك: من أين أنتْ؟ من الرقة؟ إذًا أنت داعشيّ. أما هنا في سوريا فجيش النظام يعتقلك ويرسلك في خدمة عسكرية إلزامية جديدة للموت على إحدى الجبهات ضد المحتجين والثائرين عليه”. ويتابع مونولوجه مضيفًا: “لنا أقارب في السعودية، لكنك تحتاج إلى المال للحصول على فيزا ولتذهب إلى هناك”.
جمعت الراوي “صداقة” بكثيرين ممن التحقوا بإحدى الكتائب التي تشكلت في ريف الرقة. والمعروف أن كتائب كثيرة الأسماء والانتماءات، الأهلية والمناطقية والعشائرية، تكوّنت ونشأت في خضم الثورة الشعبية السورية، التي قامت ابتداءً من آذار/ مارس 2011، سلمية ثم مسلحة، على قهر النظام السوري شعبَ سوريا طوال أربعة عقود.
لكن “أبو سيف” – ليبرر انتسابه إلى “داعش” ويضفي عليه قيمة معنوية وأخلاقية مميزة أو متفردة – سارع إلى السخرية من تلك الكتائب كلها، قائلًا إن جاره كانت لديه كتيبة باسم المنطقة التي ينتمي إليها. وهناك شخص آخر استحدث بدوره كتيبة وقادها.
أما انتسابه إلى التنظيم فكان عن طريق ما يسمى “مكتب الانتساب” في الرقة. يقول “أبو سيف” إنه أمضى 45 يومًا في معسكر لـ “داعش” بمدينة الطبقة، مؤلف من قسمين: الأول شرعي، لتلقي مذهب التنظيم ولغته في تأويل الشريعة الإسلامية، ومدته 22 يومًا. والثاني عسكري بنفس المدة. ومن ثم فُرِز إلى المضافات التي كان التنظيم يجمع فيها مقاتليه ويوزعهم على الجبهات.
لكن “أبو سيف” لم يذهب إلى الجبهة، كما قلل من أهمية عمله في مكتب “شرطة” التنظيم بـ “ولاية الرقة”، وتحديدًا في قسمها الشرقي. وكان مقرُّ المكتب آنذاك، بناءً قديمًا شغلته إدارة عامة حكومية. وليضفي قدرًا من الهامشية على عمله، زعم أنه كان سائق سيارة في قسم دوريات “الشرطة” التي كان التنظيم يرسلها أحيانًا لسد نقص في عناصر حواجز التفتيش. ومن الحواجز التي أُرسل إليها، يذكر “حاجز ولاية الرقة” الذي يسمى أيضًا حاجز “المقص”، الواقع في منطقة تحمل هذا الاسم. ولما ذكر اسم حاجز آخر في منطقة المشلب، أضاف: “طبعًا لم أذهب إليه”.
ثم حصر عملَه في جهاز “الشرطة الإسلامية” بالاضطلاع بالمشاجرات والسرقات والخلافات المالية التي تقع بين الناس. ويضرب على ذلك مثلًا: “لشخص ما دينٌ على آخر، فيأتي إلى مكتب الحسبة ويقدم بلاغًا عن الشخص الذي ديّنه وتخلّف عن سداد دينه. عناصر المكتب يسطِّرون محضرًا في القضية، يفيد أن على المدين الحضور إلى مكتب الشرطة، ويرسل المحضر إليه. إذا لم يحضر، يُبلَّغ ثانية. وفي حال تخلفه عن الحضور مجدداً، يصله تبليغ ثالث وأخير مكتوب باللون الأحمر، فينذره: إذا لم تحضر نقتُلُك. وإذا لم يحضر الشخص بعد التنبيهات الثلاثة، يرسل مكتب الشرطة دورية لإحضاره”. مجدداً التأكيد أن عمله اقتصر على مهمة تبليغ من تُقدم بهم شكاوى إلى جهاز الشرطة.
من حوادث عمله في “الشرطة الإسلامية”، يروى “أبو سيف” أنه كان مرة في دورية لها، فصادفوا في شرق الرقة شابًا جالسًا على ناصية شارع، وكانوا يعلمون أنه سارق دراجات نارية، فسألوه: هل هذه لك؟ أجاب مترددًا: لا أدري، حينها، أقدم عناصر “الشرطة” على ضربه حتى لم يعد يقوى على المشي، فاقتادوه إلى مقرهم وسجنوه. في اليوم التالي، لما جاء مندوب المحكمة، وهو جزراوي (من الجزيرة العربية)، عاين حالة الشاب السجين وعرف من ضربَهُ، فرفضَ تسلُّمَه.
ويقول “أبو سيف” إن هذه الحادثة أدت إلى تعزير عناصر الدورية جميعًا. والتعزير من مصطلحات “داعش” التي تعني “العقاب”، وقد يأخذ أشكالاً مختلفة مثل الضرب أو السجن. ورغم زعمه أنه لم يشارك في ضرب شاب الدراجات النارية، شملته عقوبة التعزير، فنُقِل إثرها من “الشرطة” إلى “ديوان الحسبة”. وهذا يناقض كلامه حينما يروى لاحقاً حوادث تشير إلى أن أن “المحتسب” -أي عنصر “الحسبة”- أرفع شأناً ومرتبة وأخلاقاً من عنصر “الشرطة” في “الدولة الإسلامية”.
يمتدح “أبو سيف” ضمنياً سجون “الحسبة” في حديثه، ويبرئها من أنواع التعذيب الأخرى، مثل “البالنغو” و”الشبح”، أي تعليق السجناء بسقف الزنازين أوقاتًا طويلة وضربهم، ويقصر استعمالها على جهاز “الأمن” في سجونه الخاصة التي لا يقترب منها سوى الأمنيين. ويتابع، “بصراحة هي (سجون الحسبة) أفضل كثيرًا من سواها من السجون التي دخلتها”.
تفيد الوثائق التي حصل عليها “متحف سجون داعش” أن “أبو سيف” كان قد عمل في سجن “البانوراما” في الرقة، وكذلك الأمر في سجن مدرسة “معاوية بن أبي سفيان”، لكن الراوي نفى لمحاوره عمله في “البانوراما”، مؤكداً أنه “زاره مرةً باحثًا عن أخيه الأصغر الذي اعتقله التنظيم قبل انتسابه هو إليه، فرأى أن المسؤولين عن ذاك السجن، وكانوا جزراويين”. لاحقًا، ومع تأكيد المحاور امتلاكنا وثائق تثبت عمله في “البانوراما” اعترف بذلك على مضض وانتقل سريعاً للحديث عن سجن “مدرسة معاوية”.
يصنف أبو سيف الفئات العاملة في إدارة “ديوان الحسبة” وسجونها، إلى فئات عدة:
شرح عنصر “الحسبة” السابق العلاقات بين هذه الكتل على النحو التالي: “كانت الأوامر كلها تأتي من العراق. وهو الأساس في القوة طبعًا. أما السوريون، ونحن في التنظيم نسميهم الشاميين، فإذا وُلِّي أحدهم أميراً، كان ختم منصبه يوضع في يد شخص أدنى منه مرتبةً، ويُكلف شخصٌ آخر بمراقبته”. وضرب على ذلك مثلًا، أن “شخصًا من حلب نُصِّب أميراً للحسبة، وكان متقدمًا في السن، ولديه القليل من المعرفة الشرعية التي حصّلها أثناء هجرته في أحد بلدان الخليج العربية. لكن نائبه كان جزراويًا، وكذلك الأمير الأعلى منه منصبًا”.
وحصر “أبو سيف” المنافسات والنزاعات بين “الجزراويين” والعراقيين، وقصرها على مناصب الإمارة. وقال إنهم في خلافاتهم ومناوشاتهم كانوا يتبادلون القول: “أنا أحقّ أو أقدم أو أعلم منك لتولي منصب الأمير. لذا كفرتْ كثرة من الناس بالدولة الإسلامية”.
وعن ذلك ردد العبارة الشائعة حول نشوء “دولة داخل الدولة” في وصفه نتائج التكتلات ونزاعاتها. وختم شهادته عن تلك النزاعات برواية ما حدث أثناء حصار “قوات التحالف الدولي آخرَ معاقل تنظيم الدولة الإسلامية” في الباغور: “نشب قتال حقيقي بين الجزراويين والعراقيين، فدبت الفوضى واختلطت الأمور التي سرعان ما حَسَمَ العراقيون زمامها في أجهزة الشرطة الإسلامية والأمن وفي الجيش”.
في شهادته عن جهاز “ديوان الحسبة”، ميّز أبو سيف بين عمله وصلاحياته ومهام عناصره (المحتسبين)، وبين عمل “جهاز الشرطة الإسلامية”. كما ميّز أيضًا بين “المحتسبين” و”الشرطة” من جهة، وجهاز الأمن والاستخبارات من جهة أخرى، على النحو الآتي:
وأضفى “أبو سيف” صفات استثنائية على عمل عناصر الحسبة، فالمحتسب الذي يخالف أوامر الديوان، يفصله الوالي من عمله، ويلحقه بـ “الشرطة الإسلامية” أو بالجيش، ويُمنع منعًا باتًا من أن يعودَ محتسبًا مرة أخرى”.
الراوي أرجع أهمية عمل المحتسبين و”رفعتهم” في التنظيم إلى أنهم “الواجهة الخارجية” الظاهرة للناس، والدليل إلى “الصراط المستقيم” في حياتهم اليومية. أي ملاكهم الحارس من انزلاقهم عن ذلك الصراط الذي رسمته “الدولة” لهم. وأضاف صاحب هذا الوصف إلى صفات المحتسب، أن عليه “التكلم بأدب واحترام، فلا يصيح صارخًا شاتمًا الناس المخالفين”، لئلا يشوِّه بفعلته هذه صورتها الخارجية وحضورها بين الناس.
وإدارة الحسبة، بحسب “أبو سيف”، “تمنعُ المحتسبَ من “ارتداء الزي الرسمي المخصص له، أثناء عمله”. وهذا لإعاقة استعمال سلطة الزي هذا على الناس، فيبتزهم أو يتزلّفونه.
عند سؤاله عن الإجراءات التي يخضع لها المعتقلون في سجون “ديوان الحسبة”، استسلم “أبو سيف” لذاكرته القديمة، ونسي أنه كان قد أنكر في موضع سابق من الحوار عمله كمحقق.
سرد أبو سيف إجراءات دخول السجن والتحقيق، من خلال مثال عن شخص اعتقل لتدخينه السجائر، فقال: “يسلم المحتسبُ المذنبَ إلى حارس يقف على مدخل مكتب الحسبة. يقود الحارسُ الشخص إلى كاتب يجلس في المكتب. يسأل الكاتبُ: ما قصتَكَ؟ فيجيب: والله يا شيخ أمسكوني وأنا أدخن في الشارع. ويكتب الكاتب محضر القضية: مدخنٌ موقوف حتى حضور القاضي الشرعي عصرًا. وحين يحضر الأخير يأمر بجلد الموقوف 10 إلى 20 جلدة. وإذا كان السجن مكتظًا بالسجناء، ينهي الشرعي الأمر سريعًا، فيأمر بجلد المدخن خمس إلى 10 جلدات، ثم يُطلق سراحه، بعدما يلزمه بكتابة تعهد يُقرُّ فيه بعدم التدخين مرة أخرى. وبعد الكاتب، يأتي دور المحقق الذي يحقق ويرفع القضية إلى القاضي. وهذا بدوره لديه محققين ووكيل ادعاء ووكيل محكمة، وسجن، وسجانين”.
وتابع، “المعتقلون في الحسبة كانوا يتركون بصفة الاستيداع، فنضعهم في السجن، من دون أن نكون على علاقة بقضايا توقيفهم، التي تذهب محاضر المحققين فيها إلى قاضي المحكمة الشرعية”.
يذهب الحديث بـ “أبو سيف” لاستحضار شخصية المحقق، ويظهر ذلك في طريقة كلامه حين قال، “من يُقبض عليه بتهمة تدخين الحشيشة، نسأله في التحقيق من أين حصل عليها، لنلاحق أعمال ترويجها ونقبض على مروّجيها. وفي المحكمة، غالبًا ما يُحكم على مدخّن الحشيشة بـ80 جلدة، والسجن لنحو 10 أيام، إضافة إلى خضوعه لدورة شرعية في السجن، يتسلّم في نهايتها بطاقة هويته الشخصية مرة أخرى”.
وختم الراوي هذا الفصل من شهادته بذكر اسمي أميرين عرفهما من أمراء الحسبة: “يوسف بن صالح العربي، وأبو علي السوداني الذي كان ضخمًا أسمر الوجه. وقد نُقِل من الحسبة وعُيّن أمير ديوان الدعوة في أواخر العام 2016. وعلى الأرجح حدثت مشاكل بينه وبين أمراء أعلى منه مرتبةً، فأُخرج وذهب إلى تدمر وقُتل هناك”.
تحدث أبو سيف عمن سماهم “الرصادُ” بلغة “داعش”، أي المخبرين، فقال: “كانوا يأتون إلينا في الحسبة، تلقائيًا وبالمجان، راغبين في الانضمام إليها. وإذا انتقل إلى الحسبة عنصر كان يعمل في جهاز آخر في الدولة، فيتباهى ويتفاخر”.
أما من كانت “الحسبة: تجندهم رصّاداً ومخبرين، فكانوا “فقراء معدمين، يبلغون عن تاجر سجائر مقابل ألف ليرة سورية (أقل من دولارين في فترة عمل أبو سيف مع التنظيم)”. و”كان الجزراويون والليبيون في “الحسبة” الأبرع في استمالة الرّصّاد والمخبرين وتجنيدهم وتلقي البلاغات منهم”.
كما تحدث “أبو سيف” عن تجنيد عناصر ومقاتلين من معتقلي الحسبة، وهؤلاء “تستميلهم إلى التجنيد معاملة سجانيهم الحسنة، أو مشاهدُ الإعدامات العلنية التي تُعرض على الشاشات في السجون، أو كلمةُ دعويٍّ في التنظيم يدعوهم إلى الجهاد، فيقول هذا السجين أو ذاك: حسنًا سأجاهد، فتخفّض عقوبته إلى ثلاثة أيام، وينضم بعدها إلينا”.
عن إطعام سجناء الحسبة، روى “أبو سيف” أن “مهمة جلب الطعام من المطاعم أوكلت لأحد الإداريين، قبل إنشاء مطبخ في مقر الديوان بإدارة شخص يدعى أبو إبراهيم، وكان بدوره يسأل السجّان كل يوم عن عدد السجناء كي يعدّ لهم الطعام. وغالبًا ما كان السجّان يعطيه أرقاماً أكثر من الواقع تحسباً لوصول سجناء جدد”.
أشار “أبو سيف” أن المعتقلين حصلوا بداية على ثلاث وجبات يوميًا، وفي الغالب كانت وجبة الغداء طبقاً من الكبسة (أرز مع اللحم). وأضاف “السجناء تمنوا العودة إلى السجن بعد خروجهم منه قائلين: هيهات نأكل في بيوتنا طبخة الكبسة المتوفرة في السجن”.
أما عن طعام العناصر، “فكان العناصر من أبناء الرقة، يحصلون على دولار ونصف لشراء وجبة غدائنا البسيط، فيما يظن الناس أننا نأكل كبسة اللحم والأرز، التي كانت من نصيب الجزراويين ممن شاعت بيننا تسميةُ الواحدِ منهم: أبو كبسة. كما كانت تصل كل منهم حوالة مالية تتراوح بين 10- 20 ريالٍ سعودي”.
نفى “أبو سيف” مرارً في حديثه عمليات التعذيب العنيف في سجون “الحسبة”، وهذا ما دفع محاوره لتأكيد امتلاكنا شهادات عن أشخاص خرجوا من سجون “داعش” وسَمُّوا سجناء قُتِلوا فيها، إضافة إلى آخرين ذُبحوا في ساحات الرقة، فأجاب: “هذا كان يحدث في العلن، على عينك يا تاجر، أمام الناس، ولا أحد يستطيع إنكار مشاهد قطع الرؤوس في الشارع. وكان هدفها إخافة الناس وترويعهم”.
وبرر السجان والمحقق السابق القتل العلني بمنعه تفشي الفساد بين الناس، وضرب على ذلك مثالًا: “حين تُقطع يد السارق في السوق، يقول المتفرجون لن نسرق كيلا نلقى هذا المصير. أما في السجون فكان معظم السجناء يطلبون وضع شاشات، كي تُعرض عليها مشاهدُ القتل العلني لأنهم يحبونها. وهي تظهر وجهًا آخر للدولة”. وهنا ضم أبو سيف نفسه إلى صُناع ذاك الوجه الدموي للتنظيم، “نقول للناس إننا لا نتهاون ولسنا بتلك السهولة، بل عندنا قتل. لكن عندنا أيضًا أمور أخرى، دروس شرعية مثلاً”.
وأضاف أن “مشاهد قطع الرؤوس تجعل ولاية مثل ولاية الرقة تقف كلها على ساق واحدة”، كناية عن الرعب الذي يحدثه في الناس القتلُ والذبح في الشوارع والساحات العامة. وهو سرعان ما أطلق كلمته المفضلة “بصراحة”، ليستدرك قائلًا: “في السجون الوضع مختلف، حيث كنا نقدم للسجناء أفضل أنواع الطعام، مثل الكبسة بالأرز واللحم”.
وبعد انتقاله السريع من الكلام عن القتل المشهدي وفوائده للناس، إلى مديح الطبخ في السجون، تحدث أبو سيف عن القتل غير العلني في سجون التنظيم. لكنه قصر الإعدام فيها على عناصر التنظيم وحدهم، قائلًا: “إذا بُلِّغ عن محتسب أنه أخذ ليرة واحدة رشوة، كان يأتي أمرٌ من القاضي بقتله، لأنه حصل على تلك الليرة بسيف الدولة الذي به يُقتل. وجندي الدولة الذي يقف على حاجز ويتقاضى رشوة لقاء سماحه بتهريب السجائر، يعدُّ خائنًا للأمانة، فتعتقله الشرطة العسكرية ويحكم عليه بالقتل”.
ووفق شهادته، تصدر أحكام القتل العلني عن “المحكمة الشرعية العليا” في “الولاية”، من قبل قاضي الحدود والجنايات، ولجنة قضائية مكونة من مجموعة قضاة يدرسون ما إذا كان التحقيق صحيحًا، والحكم مطابقًا لأحكام القرآن والسنّة. ثم تَرفعُ هذه اللجنة تقريرًا إلى “قاضي قضاة الشام” الذي لا يعرفه أحد، فينظر ويدقّق، ويرفع القضية إلى “هيئة البحوث والإفتاء”، قبل تحويلها إلى “ديوان الخليفة” في العراق، فيوقع عليها ويُصدر الحكم”.
وهنا نفى الراوي الأقوال الشائعة عن التنفيذ الفوري لعمليات قطع الرؤوس والأيدي، قائلًا: “بصراحة (هذه الأحكام) لا تُنفّذ دون علم ذوي الشأن في الدولة، ولا بمعزل عن تراتبيتها الدقيقة. يظن الناس أن هذه الإجراءات تحتاج وقتاً طويلاً، لكن هذه الهيئات وقياداتها موجودون في الرقة، وتتنقل الأوراق بينهم سريعًا، دون أن يعلم أحد بذلك”.
ومن القضاة الذين أصدروا أحكامًا بالإعدام، ذكر “أبو سيف” واحدًا، وقال إنه “جزراوي ويدعى أبو معن”. وتابع “هؤلاء القضاة لا تستطيعَ أن تسأل عنهم. وهم ينتقلون من مكان إلى آخر، ويبدلون أسماءهم. يكون أحدهم في دير الزور مثلاً، وبعد أشهر ينتقل إلى الرقة حاملاً اسماً آخر”.
أما عن منفذ عمليات قطع الرؤوس والأيدي في العلن في مدينة الرقة، فقال: “كان الناس يظنون أنه تونسي، لكنه كان حلبيًا. وزكَّاه الأمير العدناني. ويجب أن يكون شخصاً مختصاً وخبيراً في عمله. فمشهد القتل يُصوّر ويُنشر في الإعلام. ولا يجوز لتنظيم الدولة والتمكين والخلافة أن يأتي بشخص ترتجف رجلاه أو يداه أثناء تسديده ضربة سيفه إلى عنق رجل لقطعه”.
ولما سئل إن كان قد طُلِبَ منه تنفيذ حكم إعدام بأحد السجناء، سارع إلى الإجابة: “حتى لو طُلِبَ مني ذلك، أنا –بصراحة- لا أستطيع. صحيحٌ أنني كنتُ جندي دولة. لكن –بصراحة- لا يجرؤ أي شخص على تنفيذ إعدام. وحين يُقال لك إن عليك تنفيذ القتل بطلقةٍ واحدة فقط، قد يأتي إليك أولاد الرجل وأهله ونساؤه بعد موته، فيدّعون عليك. وأنا قلت إن منفذ هذه العمليات مختصّ، وزكّاه الأمير العدناني”.
واجه المحاور “أبو سيف” بالكثير من حوادث القتل والجلد والقصاص التي نُسبت له، وارتبطت باسمه، لكنه أنكرها بالكامل، وأرجع اتهامه فيها لكره الناس له. في هذا الفصل نستعرض الحوار الذي دار مع أبو سيف حول هذه الاتهامات، ونتحفظ على ذكر الاسم الكامل للضحايا احتراماً لخصوصيتهم وخصوصية ذويهم، والتزاماً بمعايير المهنية الصحفية.
|
---|
في شهادته عن مكان دفن من أعدمهم تنظيم “الدولة” أو قطع رؤوسهم، روى أبو سيف: “كنت كغيري من أمثالي في الحسبة نسمع أن مقنّعين يضعون تلك الجثث في سيارة تابعة للمحكمة الشرعية العليا أو لجهاز الأمن، دون أن يُسمح لنا الاستعلام عن وجهتها. لا أدري إن كانوا يدفنونها في مقابر جماعية”. لكنه رجّح أن التنظيم “لم يكن قادرًا على إخفاء تلك الجثث والمقابر، لأن العائلات والعشائر التي ينحدر منها أصحاب الجثث، ما كانت لتسكت عن معرفة مصير أبنائها. فعشائر الرقة لها قوتها وسطوتها في التنظيم وخارجه. وكيف يمكن لتنظيم، مهما ملك من مقنّعين وأسلحة، أن يردع مثلًا كبرى عشائر محافظة الرقة!”.
وعن المقابر الجماعية التي حفرها التنظيم قرب “المحكمة الشرعية” و”دوار البانوراما” وفي منطقة الفخيخة في الرقة، وكدّست فيها الجثث، قال أبو سيف: “تلك المقابر حُفرت ورُدمت أيام الحصار الذي ضربته قوات التحالف الدولي على الرقة، وحينها كنا نحفر حفراً أمام البيوت، وأحيانًا نقتلع بلاط غرفها ونحفر فيها لندفن جثث القتلى من الناس، ثم نردمها، خشية انتشار رائحة الجثث”. وتابع، “عندما كنا في منطقة هجين (ريف دير الزور)، أخبرني شاب أن حوالى 4500 شخص قتلوا في مجازر ارتكبها التحالف الدولي هناك بالقصف الكثيف. لكن القتلى ليس بينهم سجناء، لأننا أخرجناهم من السجون قبل أن يحاصر التحالف الرقة”.
لكنه في موضع آخر من الحوار أشار إلى عمليات القتل التي نفذها جهاز الأمن التابع لـ “داعش”، قائلاً: “نحن لا نعلم مَنْ وكيف ولماذا ومتى كان الأمنيون يعتقلون ويقتلون. نعلم أنهم اعتقلوا أشخاصًا من منطقتنا وحارتنا، ولم يعد أولئك المعتقلون إلى بيوتهم. وهم قتلوا بالتأكيد، ودفنوهم في مقابر جماعية، شأن مَن قُتلوا بقصف قوات التحالف الدولي”.
وبرّأ الراوي “الحسبة” وجهاز “الشرطة الإسلامية” من المسؤولية عن الرؤوس المقطوعة والموثّق اكتشافها في مقابر جماعية، وكذلك عن ألوف ممن اعتُقلوا في سجون “داعش” وظل مصيرهم مجهولًا، لكنه قال: “قد يكون جهاز أمن التنظيم والمسؤولون عن سجونه الخفية، هم من قاموا بذلك. من يَعتقلُ في جهاز الأمن، ليس هو الذي يحقق. والذي يحقق ليس الذي يحكم. ومن يحكم ليس الذي ينفذ الحكم ويقتل. ومن ينفذ ليس الذي يدفن. ومهمة دوريات الأمن أن تعتقل، لكن يحظّر على عناصرها سؤال المعتقل أي سؤال”.
أما عن حفرة الهوتة القريبة من منطقة تل أبيض، فذكر أبو سيف أن “الجيش الحر، وتنظيم الدولة الإسلامية، رموا فيها الجثث. وهذا أمرٌ علني يعرفه الجميع. فأبو عيسى مثلًا، وهو قائد أحد ألوية التنظيم رمى فيها جثثًا. لقد تبارى الجميع في ذلك”.
عدّد “أبو سيف” سجوناً للتنظيم سمعَ أن قصفاً للتحالف الدولي قتلَ سجناء فيها، وهي سجن في منطقة الميادين (ريف دير الزور)، وآخر في منطقة الشعفة (ريف دير الزور).
كما سمّى عناصر في التنظيم قتلوا أيضاً على بقصف للتحالف: “منهم أبو إسلام عمرية الذي أعرفُهُ، وكان معنا في الحسبة سابقًا، وقُتل عندما قصف التحالفُ سجنَ الميادين (ريف دير الزور). أما أبو عليّ الذي أعرفه أيضًا، فهو من الرقة وكان عنصرًا في التنظيم وقتل بقصف في منطقة الشعفة. وهناك أبو حمزة الصحراوي، وهو تونسي، وشرعي كبير في الدولة ويعرفه الناس جميعًا في الرقة، وقتله كذلك قصفُ التحالف الدولي إلى جانب 10- 15 من القضاة الذين عرفوا بثقلهم وقوة كلمتهم”.
وأكد الراوي أن ما سماه “اختراقًا أمنيًا” أدى إلى مقتل هؤلاء جميعًا في مكان واحد. ثم نسب الاختراق إلى جهاز أمن التنظيم الذي أراد التخلص منهم، “لأن المعلومات التي يمتلكونها تشكل أرشيفه عن شؤون الدولة وأعمالها”. وروى أن “القضاة الذين قُتلوا بقصف التحالف الدولي كانوا قد تخلوا عن عملهم ومناصبهم قائلين: “إما أن تُطاع أحكامنا وأوامرنا، وإما لا قضاء في الدولة، ولا جهاز أمن، ما دام هذا الجهاز يعمل وحده، منفردًا ومستقلًا عن القضاء”.
في الفصل الأخير من شهادته، روى أبو سيف حال “الدولة الإسلامية” عندما دخلت نزعها الأخير، فقال: “أنا وسواي في الحسبة وفي سائر أجهزة التنظيم، انتقلنا إلى العمل العسكري. الأعمال الإدارية توقفت أثناء قصف قوات التحالف وحربها علينا. لقد أصبحت الولاية عسكرية، وصار الجميع تحت قيادة العسكر والأمن، وتوقف تطبيق الأحكام القضائية، ومنها أحكام التعزير والجلد والقتل. أما السجناء فنُقلوا من السجون بطريقةٍ أمنية مشدّدة، قبل شهر من حصار قوات التحالف الدولي”.
أخيرًا روى أبو سيف قصة خروجه من الرقة، قبل سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” عليها بأربعة أشهر عام 2017، مشدداً على أنه “لم يهرب”، “بل خرجت في مهمة كلفني بها التنظيم في معدان (ريف الرقة). وكنت أنوي العودة لأقاتل في المدينة وأدافع عنها. لكن الطرق المؤدية إليها أُقفلت”.
انضم أبو سيف، حسب روايته، إلى معسكر إعادة تأهيل عسكري في حماة. مبرراً ذلك بإصاباته السابقة، ثم التحق بـ “المضافات”، ثم بكتيبة “عمر الشيشاني”، التي قال إنها كانت والمجهزة للقيام بعمليات انغماسية، بعد الخروج من الرقة، مضيفاً، “كانت لدى كتيبة عمر الشيشاني مضادات للطيران. ثم دمجوها بكتيبة اسمها لواء الإسناد. ولما ألحقوني بقسم الهاون رفضت، لأن مدافع الهاون من صنعنا، وقد تنفجر قبل انطلاق القذائف. أما اختصاص التفخيخ فكنت أخافه. لذا قلت لهم أرسلوني إلى أي قسم تريدون، فاختاروني للعمليات الانغماسية التي كان يتهرب منها الجميع. كنت أعلم أن المسؤول عن هذه العمليات يختار الرشيقين. وهذا لا ينطبق عليَّ نتيجة إصابتي السابقة”.
مكث “أبو سيف” في معدان ثلاثة أشهر، حيث كانت للتنظيم كتيبة تدعى “المثنى” وكتيبة “رباط خالد” لكبار السن، بحسب مذ ذكر، وبعد ستة أيام من خوض الكتيبتين معارك مع قوات النظام السوري من جهة، وقوات (قسد) من جهة أخرى، وقعتا في الحصار، “كانت المدفعية تقصفنا بكثافة من الأرض والطائرات تصورنا من الجو، فهربنا بمراكب نهرية حتى وصلنا إلى منطقة الميادين التي سقطت بعد تسعة أيام، ثم انسحبنا أخيرًا إلى الباغوز”.
اعتقل “أبو سيف” لاحقاً على يد “قسد” وهو يمكث في أحد سجونها حالياً، وفي روايته عن حالته الراهنة استخدم مونولوغًا تنقل فيه بين صيغة من يحدّثُ نفسه ومن يحدّث غائبًا، فتساءل: “ماذا يشعر ويحس شخصٌ سجين؟ طبعًا يريد أن يخرج من السجن. وكان أحدنا يسأل الآخر: متى كانت آخر مرة رأيتَ زوجتك في المنام؟ زوجتك أو أمك. وتخيّل أنك لا تعرف التاريخ ولا الأيام. ولا تستطيع التحدث مع صديقك إلى جانبكَ”.
يعتقد المحقق السابق في سجون تنظيم الدولة أن السجن الذي يقبع فيه أشد وأكثر قسوة من أي سجن شهده سابقاً، ويقول إنه يفقد معنوياته كل يوم، ويعاني الاضطرابات النفسية نتيجة الظروف التي يمرّ بها.
أما عن أسرته فقال: “لا أعرف عنهم شيئًا الآن. كنت قد تزوجت امرأة لديها ستة أولاد كفلتهم لأنهم أيتام. وأنجبتُ منها طفلين آخرين. وعندما قصفت قوات التحالف الدولي الباغوز، قتل الأطفال، سوى صبيّ وفتاة”.
خلال الحوار الذي أجريناه مع “أبو سيف” كان واضحاً أن لغة تنظيم “داعش”، مصطلحاته وأحكامه ومخيلته ونظرته إلى العالم، لا تزال تملأ دماغ المحقق والمتحري السابق وذاكرته، تستأثر بكلامه وعباراته، مع أن مدة مكوثه في أجهزة التنظيم تقل عن السنتين (2015 – 2017).
ورغم طغيان شخصية “أبو سيف مقص” على حواره، لكن شخصية أخرى تراود مخيلته وأحلامه.
“نعم الناس جميعًا في الرقة يكرهونني. وهناك من يزعم اليوم أني سأذبح إن مررت في المدينة. لكن في الحقيقة الناس سيلقون عليّ التحية قائلين: كيف حالك، كيفك أبو صطيف؟”.