تعني كلمة “الحِسبة” في اللغة العربية الدّارجة اليوم “طَلَب الحساب أو الأَجر”، لكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) استوحى معناها ودلالاتها من مَوْروثات التّراث الفِقهي والإداري الإسلامي القديم، وذلك حينما كانت الحسبة تُعنى بِمُراقبة الأعمال والأسعار في الأسواق.
وعندما بَسَط التنظيم نفوذَه على مناطقَ من العراق وسوريا بين العامين 2014 و2017، أسقط مفهوم “الحسبة” القديم هذا على دلالتها في الزمن الراهن، واستغلَّه ليحاسب الناس، حساباً عسيراً، في كلّ مناحي حياتهم ووجوهها، بناءً على أحكامٍ فقهيّة من الشريعة الإسلامية، بعد أنْ حوّلها إلى مدوَّنة إدارية أمريّة وعقابيّة، عمليّة ومباشرة، وأسّس لها ديواناً خاصّاً هو “ديوان الحسبة”.
ظاهريّاً أراد “ديوان الحسبة” تطبيق مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في المجتمعات التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، لكن “الأمر” تحوّل “وعيداً” و”النهي” “زجراً وجلداً وسجناً وتعذيباً في أغلب الأحيان”، أما “المعروف والمنكر”، فصارا مجموعة من “المُباحات” المشروطة و”المحظورات” المفروضة وفق منطق “ديوان الحسبة” المتشدّد.
وبما أنّ “الحسبة” تولَّت مهامّاً رقابية وتنفيذية، فقد تطلّب ذلك إقامتها على بنية تنظيمية هرمية توزّع فيها تطبيق القوانين والأحكام المنصوص عليها في “اللائحة العامة” التي اعتُبِرت “الدستور” أو “الكتاب المرجعي” الذي يبتّ في كلّ “المخالفات” التي قد يرتكبها الناس، ويرسم طرق التعامل معها، بدءاً من التحرّي عنها مروراً بالمداهمات والاعتقالات وصولاً إلى السجن وإصدار الأحكام.
يسعى هذا التحقيق إلى تقديم شرح مفصَّل عن “ديوان الحسبة” في زمن تنظيم الدولة الإسلامية، انطلاقاً من استعراض وتحليل وثيقة “اللائحة العامة لديوان الحسبة” التي تمكَّن “متحف سجون داعش” من الحصول على نسخة منها.
ومِنْ شأن عرض وتحليل هذه الوثيقة المساعدة على فهم هيكليّة “الحسبة” الإدارية، والطريقة التي اعتمدَتْها لتقييد حياة الناس وقمعهم وإرهابهم، والقوانين التفصيليّة التي وظّفتها من أجل ذلك، والإجراءات التي طبَّقها العناصر لِتنفيذ تلك القوانين.
وضع تنظيم الدولة وثيقةً أو كتابًا مرجعيًا لنظام عمل حسبته، وسماه “اللائحة العامة لديوان الحسبة”. وكلمة الديوان فارسية الأصل، ومن معانيها في مخيّلة التنظيم ما يشبه وزارة الداخلية (في الزمن الحديث) من وزارات الحكومة. الوثيقة وضعها شخص اسمه يوسف بن صالح العربي، واعتمدت عندما بدأ التنظيم إرساء مشروع “دولته”، أي في 1436/7/1 هجرية الموافق لـ 2015/4/20 ميلادية، في 106 صفحات شملت نظام الحسبة الإداريّ ودورها ووظيفتها وقوانينها وأحكامها وعملها وعقوباتها وأشكال وإجراءات تنفيذ تلك القوانين والأحكام والعقوبات بشكلٍ عمليّ مباشر، بحسب ما وَرَد وكُرِّر في مواضع كثيرة من الوثيقة، وفي شهادات معتَقَلين سابقين في سجون التنظيم.
ويبدو أنّ الوثيقة، أو كتاب أو دستور الحسبة العمليّ، كانت نسخة تجريبية غير نهائية. فهي حَوَت أخطاءَ طباعيّة ونحوية، كما أهملت ذكر بعض المعلومات. وفي الصفحات الأولى يتوجّه النص إلى أُمراء (قادة أو وزراء) دواوين (بمعنى وزارات) التنظيم وإداراته وأجهزته الأخرى، ويطلب آراءهم في محتوى النص، وما يُمكنهم أنْ يدخِلوه عليه من تصحيحات وتنقيحات. كما يذكر أنّ الكتاب سيُطبَّق لفترةٍ تجريبيّة تستغرق خمسة أشهر (بدءًا من 1 رجب 1436 هجري، الموافق لـ 20 نيسان/أبريل 2015 ميلادية)، سيكون بإمكان أمراء الحسبة والدواوين في خلالها إرسال تصحيحاتهم وإضافاتهم.
وبالاطّلاع على الوثيقة يُفهَم أنّ حسبة “داعش” هي شرطة رقابية وإجرائية أو تنفيذية مباشرة، وضع التنظيم معاييرها الأخلاقية والعملية، ليحاسب بواسطتها الناس ويتحكم بتفاصيل حياتِهم اليومية العامة والخاصة، من أعمال وعلاقات وسلوك وتصرّفات ومعاملات وصولاً إلى أجسامهم وملابسهم، أي اجتماعهم ومجتمعهم ووجودهم كله.
وبذلك فرضت الحسبة على الناس والمجتمع معايير سلطتها الزجرية والأَمرية المباشرة، التي على أساسها تحاسبهم وتعاقِبهم في حال لم يُطيعوها. وهذا ما زرع في صدورهم وحياتهم وعلاقاتهم الخوف والرعب، وغيّر أنماط حياتهم تغييرًا كبيرًا في زمن شديد الاضطراب.
بعد العبارة الافتتاحية: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، تعلن الوثيقة أنّها “تتضمَّن عمل ديوان الحسبة إدارِيًا وميدانيًا”، مِنْ هيكلها الإداريّ داخليّاً إلى عملها المباشر، ميدانياً، في حياة الناس ومجتمعهم.
وقد ورَد في الوثيقة تعريف الحسبة على أنها “في الدولة الإسلامية ولاية رقابية تنفيذية شرعية، مهمتها سياسة الناس بأمرهم بالمعروف إذا ظهر تركه، وزجرهم عن المنكر إذا ظهر فعله، وحمْلَهم على ما يوافق نظر الشرع ومراده في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب. وذلك من خلال الأفراد- المكلفين من جهة الإمام- والقائمين على هذه الولاية، إدارةً وتنظيمًا وعملًا”.
الدولة هنا هي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والولاية تعني، بلغة الوثيقة، سلطةً تعلن أنها رقابية وتنفيذية وشرعية، لتقويم سلوك الناس تقويمًا مباشرًا وبلا وسائط. وتستمد تلك السلطة شرعيتها من نفسها، أو من تأويل “فقهاء وأمراء داعش”، ومنهم واضع الوثيقة أو مؤلِّفها، وبعض المُصنَّفات الفقهيّة والشرعيّة الإسلاميّة، وتفصيلها على مقاس فهمهم وآرائهم وعقيدتهم السلفية الأمنية، وتعتمد الحسبة في عملها الأمرَ والزجرَ، يُطبِّقها على الناس أفرادٌ هم شرطة الحسبة، أو المحتسبون. وذلك بتكليف شخصي ومباشر وبلا وسائط، من “الإمام”، أي “الخليفة” أو “أمير المؤمنين، الحاكم بأمر الله”.
ولا يكفُّ نصّ الوثيقة في أبوابه السبعة وفصولها، عن الاستشهاد بِفَيْضٍ من الاقتباسات المأخوذة:
شكّلت هذه الاقتباسات نسبة كبيرة من مادة النص المكتوبة، وكان الهدف منها تسويغ ما يريد التنظيم إنفاذه من أوامر وعقوبات على الناس بِسَنَدٍ دينيّ يُفْتَرَض أن يُضفي شرعيّة قُدْسِيّة على أفعاله. وإذ يحاول النص سَوْق أمثلة عن عمل الحسبة ومهامّها لا يجد سوى ما يَرِد في بعض مصنَّفات الفقه مِن مثل “مراقبة الأسواق وفحص جودة البضائع وحدوث الغش”، و”مراقبة الطرائق ومنع العوائق” و”منع الحمّالين وأصحاب السفن من الطغيان في الحمولة” و”أمر أصحاب البيوت المتداعية بإزالتها”، لكن الأساس يبقى في العودة فوراً إلى مهمة الحسبة الرئيسة المتمثّلة بأمر الناس وزجرهم ومعاقبتهم.
وفي باب العقوبات تَرِد في التمهيد “فلسفتها” أو دواعيها على الشكل التالي: “لَمّا كان الله يَزَعُ (من الوزع، أي الكف والمنع والزجر والنهي) بالسلطان (بالقوة) ما لا يزع بالقرآن (كلام الله)، كان لا بدّ للمحتسِب (عنصر الحسبة الذي بايع داعش وولاه) مِنْ أنْ يعاقب ويؤدِّب أهلَ المعاصي ويقمع أصحاب القلوب المريضة والطبائع الباردة”.
يُستشَّفُ من كتاب “اللائحة العامة” انشغالُ قادة التنظيم وفقهائه بمناصب “الحسبة” وبمراتبها، لا بل هوسُهم بها، فإذا هم يضعون لها هيكليّة إدارية بيروقراطية، ويخطِّطون على الورق أو على شاشة الحاسوب الرسومات البيانيّة لدوائرها مع أسمائها ومهمّاتها، فتتعدّد الألقاب بتعدّد المراتب والمناصب في السلسلة الإداريّة الهرميّة للديوان وبحسب فروعه، كما يتبيَّن في التقسيم المًعتَمَد التالي:
وقد تضمّنت وثيقة الحسبة رسماً بيانيّاً لكلّ من دوائرها الإدارية هذه، يوضِح بالتفصيل هيكليّتها وبنيتها الهرميّة.
توزُّع المناصب في ديوان الحسبة المركزيّ
يعيِّن الخليفة أو ممثِّله أميرَ الديوان في الحسبة المركزية، وتكون مهامّه:
أما نائب الأمير فيساعد الأمير وينوب عنه في غيابه. وهناك أيضًا نواب آخرون عن الأمير يتولَّون الأعمال الإداريّة والمالية، ويتابعون القضايا وشؤون مراكز الحسبة في الولايات.
ويعمل هؤلاء تحت إشراف أمير ديوان الحسبة المركزيّ أو نائبه.
تكثُر في الوثيقة الرسوم البيانية لأقسام الحسبة الأخرى الثلاثة (أي الفروع، المكاتب، والمراكز). وهي مطابقة للرسم البيانيّ عن ديوان الحسبة المركزي، مع فروقات طفيفة تتناول تحديد أعمال ومهامّ محدَّدة ومختلفة خاصّة بأقسام الحسبة، كما يتبيَّن في الرسم أدناه عن مركز حسبة الولاية:
يشرف النائب الشرعيّ على عمل خبراء القوانين الشرعيّة في مكاتب الحسبة، وينظّم دورات شرعيّة لموظفيها. أما مسؤول الآليات فيُعنى بالسيارات والمركبات في مركز الحسبة.
يعمل مكتب الحسبة تحت إدارة المركز التابع بدوره لإدارة ديوان الحسبة المركزيّ. وقائد الشرطة هو مَنْ يتولّى إدارة المكتب.
وما يلفت في هذا القسم هو وجود:
حوى النص الخاصّ بفرقة النساء قيودًا وتوضيحات، منها أن “ليس لهُنّ [النساء] قوّامة [سلطة]. بل هنّ أخوات الرجال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وتشمل مهام الفرقة النسائية:
أما مسؤول السجن فيتولّى تسلُّم المعتقلين وسجلات الاعتقال والأغراض المصادرَة، مِنْ فرق الحسبة الميدانية. ومن المهام العملية الأخرى الموكلة إليه مثلًا “تحضير مكان لاستجواب السجناء”، وقد ضمّ كل سجن من سجون الحسبة “غرفة تحقيق”.
أمّا مسؤول الرقابة والتحقيق فيتولَّى مسؤولية مكافحة الغش والإهمال في التجارة والأعمال، والتأكّد من صحّة الإجراءات في المسالخ.
وقامت مهامّ مسؤول المرآب، أي محطات النقل العام، على التأكد من منع النساء من السفر، إلا إذا كنّ برفقة محرم، لكن في بعض الحالات، منح مكتب المرآب وثائق سفر لنساء بلا محرمهِنّ الذي كان لا يزال على قيد الحياة، بينما أغلق مسؤول المرآب مكاتب سفر باعت تذاكر سفر لنساء بلا محرم، واعتقل نساء وعاقبهُنَّ.
عملت فروع الحسبة تحت إدارة مكتب الحسبة الذي عمل بدوره تحت إدارة مركز الحسبة. وهرم الأدوار أو المسؤوليات في الفرع هو على الشكل التالي:
ينصّ كتاب “اللائحة العامة” على وجوب اعتقال الفرق الميدانية المخالفين في فروع الحسبة لِمدّة لا تتجاوز يومين. لذلك تحوّلت الفروع إلى مراكز اعتقال مؤقَّت، على أن يطلق سراح المعتقلين فيها بعد اليومين أو يُنقَلون إلى أحد سجون الحسبة الأخرى.
ينصّ كتاب “اللائحة العامة” على أَنّ “ديوان الحسبة ولاية (سلطة) مستقلّة” في ما يتعلق بوضع نظامها وتحديد صلاحياتها وتوزيع أدوارها. وسلطات الديوان المركزي “ترتبط بأميره المُنّصَّب من قبل الإمام، ويعود في قراراته للإمارة العامة”، وللديوان “ميزانية مستقلة”. وتتبعه جميع مراكز الحسبة في الولايات، ومكاتبها في المدن والبلدات، وفروعها المحلية في الأحياء والقرى. وسلطات الولايات هي المسؤولة، ماليًا وإداريًا، عن مراكز الحسبة التي فيها.
وتسلسل المناصب والمراتب الإدارية حاضر حضورًا كاسحًا، بتكرار مملّ في كتاب “اللائحة العامة” لحسبة التنظيم.
وكان لأمير الحسبة مقرّ خاص يؤدّي فيه مهامه، وهو من يختار أمراء مراكز الحسبة في الولايات بالتشاور مع ولاتها، وأمراء المراكز هم من يختارون نُظّار مكاتب الحسبة ومسؤولي فروعها في مناطقهم.
وتتوزَّع أعمال الحسبة، أو شرطة الحسبة، على أربع دوائر أو أقسام:
يجب على مَنْ يريد أن يكون محتسبًا وينخرط في جهاز شرطة الحسبة أنْ يستوفي الشروط التالية:
ارتدى عناصر الحسبة لباسًا موحدًا مكونًا من صدرية بنّية داكنة، تحمِل شعار الحسبة من الأمام ومن الخلف.
صلاحيات المحتسب
يذكر كتاب “اللائحة العامة” أن مهام ديوان الحسبة “مبنية على متطلبات المصلحة العامة”، التي “يحدِّدُ[ها] الإمام”، من دون مشورة الناس فيها. أما العين الساهرة لمراقبة المُخِلِّين بمتطلبات “المصلحة العامة”، ووكلاء إمامها لمعاقبتهم عقابًا مباشرًا، فهم المحتسبون.
وكان هؤلاء المحتسبون أقرب إلى الناس وأكثر احتكاكًا بهم من سائر عناصر وموظَّفي دواوين “داعش”. وعملُ المحتسب اليومي هو مراقبة الناس ومخالطتهم في الشوارع والأماكن العامة، بل من واجباته أنْ يبحث ويتحرَّى ويتقصى عمن يخلُّون بـ”آداب” الحسبة ودستورها المنصوص عليه في وثيقتها الإجرائية. ومن واجبه مثلاً أمرهم مثلًا بالصلاة في أوقاتها، وضرب من يضبطه متخلفًا أو مقلعًا عنها، واعتقاله.
وصف التنظيم عموم الناس بـ”العوام” لأنه عدّهم جهلة ويحتاجون إلى الإرشاد والموعظة، وذكر سجناء سابقون في سجون التنظيم أن السجّانين وعناصر “داعش” ميّزوا بين الناس في كلامهم، فاعتمدوا كلمة “الأخوة” في الإشارة إلى عناصر التنظيم وعائلاتهم، وسموا باقي الناس “العوام”.
الوثيقة التالية الصادرة عن “ديوان الحسبة”، والمنشورة في أيلول/سبتمبر العام 2014، تتضمن إعلاناً عن قرب افتتاح “معهد لإعداد المُحْتَسِبين، وذلك بغية تشكيل كوادر الحسبة.” ولذلك تطلب “ترشيح خمسة محتسبين من مفصل الحسبة في الولاية لإلحاقهم بالمعهد”.
تكاد علاقة “العوام” من الناس بالمحتسبين تقتصر على المراقبة والملاحقة والزجر والتوقيف والاقتياد إلى مقار الحسبة، وإذا اقتضت الحاجة المعاقبة مباشرة. فكتاب “اللائحة العامة” ينصّ على أن “واجب المحتسب أن يرشد ويوجّه الناس، ويُعاقب ويُقوّم المخطئين”. وتهدف العقوبة إلى “ردع المخطئين وكبح أصحاب القلوب المريضة”. ويذكر الكتاب أنّ الإمام أو الخليفة يحق له إنزال عقوبات تعزيرية بالمخالفين. ويمكنه أن يمنح هذا الحق لآخرين، ومنهم المحتسبون.
وعلى هذا الأساس، فإن المحتسب مُفَوَّض بإنزال العقوبات التالية:
يوازي انشغال مسؤولي وأمراء التنظيم بالمناصب والمراتب، انشغالهم المَهْوُوس بالمعاملات الإداريّة وبالتواقيع ووضع أختام أصحاب تلك المناصب والمراتب عليها، والحسبة مثال أو نموذج على ذلك. يشمل ذلك شتى أنواع المعاملات، وحتى العادية والصغيرة منها. أما الظاهرة الثالثة الموازية أو المرافقة فهي التشديد على توثيق ما يقوم به المحتسبون، وحفظ تلك الوثائق.
وقد يكون التنظيم ورث هذا الشكل البيروقراطي في إدارة “دولته” عن النظام السوري ونظام صدام حسين العراقيّ.
من الأمثلة على بيروقراطية النظام الإداري في تنظيم الدولة أن كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة” ينص على تفاصيل إدارية كثيرة، منها الإجراءات المعقدة التي يحتاج إليها عنصر في الحسبة كي ينتقل من منطقة إلى أخرى. فقد احتاج كل عمل إداري في أجهزة التنظيم الإدارية إلى معاملات ومراسلات وتوقيعات وموافقات كثيرة.
تبدأ معاملة الموافقة على نقل عنصر الحسبة بتقديم طلب نقل رسمي، يذكر فيه المكان الذي يريد الانتقال إليه وأسبابه. ويجب أن يعلّق الأمير المشرف على الطلب، ثم يوقعه ويمهره بختمه. وإذا أراد العنصر الانتقال إلى وظيفة في ديوان آخر غير الحسبة، يتوجب عليه الحصول على موافقة أمير مركز الحسبة، وأن يرفق الطلب بموافقة مكتوبة من الأمير الذي سيعمل تحت إشرافه في الوظيفة الجديدة. ويجب أن يوقع هذا الأمير طلب النقل ويختمه. ثم يجب أن يوافق والي المدينة أو الولاية على الطلب.
ويجب أن تُحفظ نسخة من الطلب في سجلات الوالي بعد الموافقة، ونسخة أخرى من الموافقة تحفظ في سجلات أمير مركز الحسبة. وينص كتاب “اللائحة العامة” على أن العناصر الراغبين بالانضمام إلى ديوان الحسبة، يحتاجون إلى وثيقة موافقة رسمية على طلب نقلهم من وظائفهم السابقة.
إنّ إكثار مصمّمي الهيكل الإداري لجهاز الحسبة من تعليماتهم الإدارية قد يكون مِن العوارض البيروقراطيّة نفسها، بما يوحي أنّ أولئك المصممين قد اعتبروا أنّ “الدولة (دولتهم)” يبدأ بناؤها برسمها على الورق أوّلًا.
فحتّى مقرّ الحسبة مثلًا لم تُفوِّت التعليمات تحديد مواصفاته وضرورة إقامته في مكان يعرفه الناس، وأن تكون له باحة أو مساحة كافية لركن سيارات الحسبة وآلياتها. ويحظر تركيب صحون لاقطة للبثّ التلفزيوني في الحسبة، علماً أن استعمال الأجهزة التلفزيونية ممنوع في الأساس.
كان مقر ديوان الحسبة في مدينة الرقة في مبنى مدرسة “معاوية بن أبي سفيان” الحكومية التي استوفى موقعها المواصفات المطلوبة، إذ كانت معروفة من معظم أهل المدينة، وضمت ثلاثة أبنية تتوسّطها باحة كبيرة خُصِّصت لركن السيارات.
(هنا وضع صورة لمقر الحسبة في مدرسة معاوية |
---|
ويعدّد النص الآليات التي يُمكن أن يستعملها عناصر الحسبة، فهناك الدراجات النارية، والسيارات الصغيرة للمهمّات الإدارية أو عمليات المراقبة، والسيارات الكبيرة والحافلات الواسعة (سعة 15، 25، 50 مقعداً). وشملت التعليمات توحيد لون الآليات، مع تفضيل الأبيض لها، ونبَّهت إلى أهمية العناية بالآليات وصيانتها دوريًا، وإلى ضرورة أن يكون سائقوها مؤهَّلين، وألى عدم استعمالها لأغراض شخصيّة.
وحدّدت التعليمات استعمال أجهزة التواصل اللاسلكية وحصرت ذلك بمهام العمل فقط، مع التنبيه إلى عدم ذكر أسماء المعتقلين عبرها. كما نصّت على أنّ المسدسات التي مُنح أمير الحسبة أو عريفها صلاحية توزيعها على عناصر الحسبة، وفقاً للظروف، يجب أنْ تُعاد بعد انتهاء المهمة الموكلة إليهم.
ونص كتاب “اللائحة العامة” على وجوب كتابة الأرقام في المراسلات الرسميّة بالشكل المُعتَمد حالياً في البلدان العربية اليوم (٣،٢،١…)، والإقلاع عن كتابتها بالشكل اللاتينيّ (1، 2، 3…)، مؤكِّداً”عدم صحة الادعاء بأن شكل كتابة الأرقام العربية هو من أصول هندية”.
ونصّت التعليمات على كتابة المراسلات الإدارية بالعربية الفصحى، وسُمِح بكتابة بعض الشروح باللغة المحكيّة على أن توضع بين قوسين، كما حدّدت حجم الخطّ، على ألا يقل عن قياس 14، وكذلك اللون، الأسود أو الأزرق إذا كتب باليد. وفرضت التعليمات الالتزام بنظام محدد لتوثيق المراسلات، على أن تُعتَمَد فيه أرقام متسلسلة وحروف ترمز إلى الولايات: مثلًا (ف) رمز لولاية الفرات.
حمل كل عنصر من عناصر الحسبة بطاقة تعريف رسمية، وصُمِّم للحسبة شعار بالخط العربي على شكل سفينة شكلت كلمتا “ديوان الحسبة” هيكلها، وكلمتا “الدولة الإسلامية” شراعها.
استلهم التصميم من حديث لرسول الله محمد، مروي عن الصحابي النعمان بن البشير[1]: “مَثَلُ القَائمِ فِي حدودِ اللهِ والواقعِ فيها كمَثلِ قومٍ اسْتَهمُوا علَى سَفِينةٍ، فصار بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، وكان الَّذينَ في أسفِلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا”.
وهذا تشبيه لعناصر الحسبة بالمسافرين في أعلى السفينة، والذين يجب عليهم منع المسافرين في أسفل السفينة (أي المجتمع) من خرقها بأفعال ضالّة.
وقد طُبع شعار الحسبة على جانبَيْ السيارات والحافلات وزجاجها الخلفي، وعلى الزجاج الأمامي الصغير في الدراجات النارية.
اعتمد الأمير ونائبه ختمَيْن أحمرين في ديوان الحسبة المركزي، ومسؤولو الأمور المالية والإدارية أختامًا زرقاء. أمّا أمراء مراكز الحسبة الفرعية فقد استعملوا أختامًا زرقاء فقط. ووجدت في مقر الحسبة في الرقة أختام باسم “أمير ديوان الحسبة” و”نائب أمير ديوان الحسبة”. ووجدت كذلك أوراق رسمية خاصة بديوان الحسبة للمراسلات، وفي مراكز الحسبة بالولايات وجدت أجهزة نسخ وأختام باسم “أمير مركز الحسبة في ولاية…” وباسم “الإداري – المالي”. وفي مكاتب الحسبة أختام باسم “عريف الحسبة” و”مكتب المراقبة والتحري” و”مكتب المرآب”. وعُثِر في الفروع المحلية على أختام مكتوب عليها “المُحْتَسِب”.
وكان “ديوان الحسبة” قد أصدر مجلة فصليّة باسم “خير أمة” الذي أخذه من الآية القرآنية: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ” (سورة آل عمران، الآية 110). ونشرت المجلة مقالات عن صلاحيات الحسبة، وتقارير عن أسباب “فعل المنكرات” وكيفية التعامل معها، وتقارير عن إنجازات مراكز الحسبة في الولايات، وفتاوى أصدرتها هيئة الدراسة والفتوى.
وأفرد كتاب “اللائحة العامة” فصلًا للأدوات واللوازم المؤمَّنة للمحتسب، فشملت إلى جانب الأبنية والمراكز والأغراض الأخرى، الطوابع والأختام الرسمية.
يُفصِّل الجدول التالي، المُثبَت كما هو في كتاب “اللائحة العامّة”، علاقة ديوان الحسبة المركزي بالولايات:
المهمة | مسؤولية والي الولاية | مسؤولية الديوان | ملاحظات |
---|---|---|---|
إنشاء مركز حسبة في الولاية | مسؤولية الولاية | إشراف | |
بنية المركز الإدارية | يجب الالتزام بها | يجب وضعها | |
قواعد العمل | يجب الالتزام بها | يجب وضعها | إذا رأى الوالي أن القواعد مخالفة لسياسة الولاية الشرعية، يحال الأمر إلى لجنة الإشراف العامة لدراسته والبتّ فيه. |
المراقبة والإشراف | مسؤولية الولاية | مسؤولية الديوان | صلاحية إصدار الأوامر بيد الوالي، أما الديوان فيوثّق ويبلِّغ المركز عبر الوالي عمّا رآه من تقصير. |
المراقبة والمحاسبة | مسؤولية الولاية | له الحقّ في إخبار الوالي ورفع التقصير إلى اللجنة | |
تحسين الأداء | تقديم الاقتراحات | مسؤولية الولاية | تلتزم الولاية بما يُقِرّه الديوان بعد اعتماده من لجنة الإشراف العامة |
تأمين مقرّات | مسؤولية الولاية | ||
توظيف فريق العمل | مسؤولية الولاية | التنسيق للاختيار المناسب | |
النفقات
[منح – كفالات – نثريات – إلخ] |
مسؤولية الولاية | ||
المنح والكفالات | مسؤولية الولاية | ||
مكافآت عناصر المركز | مسؤولية الولاية | ||
التسليح | مسؤولية الولاية | ||
نفقات السيارات والآليات | مسؤولية الولاية | ||
تنقلات السيارات والآليات
(داخل الولاية) |
من اختصاص أمير المركز | • بالتنسيق مع الوالي وأمراء القواطع
• في حالة الاستنفار تعطى الصلاحية لأمراء القواطع مع إشعار أمير المركز كتابيًا. |
|
واجبات عناصر المركز | مسؤولية الولاية | ||
المعدّات اللازمة،
إلكترونيات – حواسيب – قبضات (أي أجهزة تواصل لاسلكي) |
مسؤولية الولاية | ||
تعيين أمير المركز | بالتنسيق مع الديوان | بالتنسيق مع الوالي | في حال الخلاف وتعذر الحلّ في خلال 10 أيام ترفع المسألة إلى لجنة الإشراف العامة |
عزل أمير المركز | من صلاحيات الوالي | إذا حصل العزل دون إخطار، ترفع شكوى إلى اللجنة | يجب إخبار الديوان بكتاب رسميّ قبل شهر من العزل. |
إجازات أمير المركز | من صلاحيات الوالي | يحق له الاعتراض وتأجيل الإجازة لضرورة العمل | |
تعيين نائب أمير المركز | بالتنسيق بين الوالي وأمير المركز | اقتراح المناسب وتقديم النصيحة | للوالي القرار النهائي وإن اعترض رئيس المركز |
عزل نائب أمير المركز | من صلاحيات الوالي | يجب إعلام أمير المركز قبل العزل بعشرة أيام. | |
إجازات نائب أمير المركز | من صلاحيات أمير المركز | تطلب من الوالي إذا كانت خارج الولاية | |
تعيين موظّفي المركز | من صلاحيات أمير المركز | ||
عزل موظفي المركز | من صلاحيات أمير المركز | يعلم الوالي بكتاب رسمي يبين سبب العزل | |
إجازات موظفي المركز | من صلاحيات أمير المركز | تطلب من الوالي إذا كانت خارج الولاية | |
إنشاء مكاتب في القواطع | مسؤولية أمراء القواطع | يجب إعلام الديوان بكتاب رسمي | |
تعيين أمراء المكاتب | مسؤولية أمراء القواطع والمركز | إذا حصل خلاف يرفع الأمر إلى الوالي | |
عزل أمراء المكاتب | من صلاحيات الوالي | يجب إعلام أمير المكتب قبل العزل بخمسة أيام | |
إجازات أمراء المكاتب | من صلاحيات أمير القاطع | تطلب من الوالي إذا كانت خارج الولاية | |
تعيين موظفي المكاتب | من صلاحيات أمير المركز | بالتنسيق بين أميري المركز والقاطع | |
عزل موظفي المكاتب | من صلاحيات أمير المركز | بالتنسيق بين أميري المركز والقاطع | |
إجازات موظفي المكتب | من صلاحيات أمير القاطع | بعد موافقة أمير القاطع. تطلب من الوالي إذا كانت الإجازة خارج الولاية | |
مراسلة المركز | من صلاحيات الوالي | يرسل كتاب موجه للولاية – المركز | يجب على الوالي إيصاله خلال ثلاثة أيام من إرساله |
مراسلة الديوان | من صلاحيات الوالي | يراسل المركزُ الديوانَ عبر الوالي ويحق للمركز مخاطبة الديوان مباشرة مع إرسال نسخة من المكاتبة إلى الوالي. | |
دورات تدريبية | من صلاحيات الوالي | يجب أن يقرها الديوان | يُلزم الوالي العناصرَ بحضورها بعد أن يُقِرّها الديوان |
استنفار موظفي المركز | من صلاحيات الوالي | ||
استنفار موظفي المكتب | من صلاحيات أمير القاطع |
المهمة | مسؤولية والي الولاية | مسؤولية الديوان | ملاحظات |
---|---|---|---|
إنشاء مركز حسبة في الولاية | مسؤولية الولاية | إشراف | |
بنية المركز الإدارية | يجب الالتزام بها | يجب وضعها | |
قواعد العمل | يجب الالتزام بها | يجب وضعها | إذا رأى الوالي أن القواعد مخالفة لسياسة الولاية الشرعية، يحال الأمر إلى لجنة الإشراف العامة لدراسته والبتّ فيه. |
المراقبة والإشراف | مسؤولية الولاية | مسؤولية الديوان | صلاحية إصدار الأوامر بيد الوالي، أما الديوان فيوثق ويخاطب المركز عبر الوالي عمّا رآه من تقصير |
المراقبة والمحاسبة | مسؤولية الولاية | له الحق بإخبار الوالي ورفع التقصير إلى اللجنة | |
تحسين الأداء | تقديم الاقتراحات | مسؤولية الولاية | تلتزم الولاية بما يُقِرّه الديوان بعد اعتماده من لجنة الإشراف العامة |
تأمين مقرات | مسؤولية الولاية | ||
توظيف فريق العمل | مسؤولية الولاية | التنسيق للاختيار المناسب | |
النفقات
[منح – كفالات – نثريات – إلخ] |
مسؤولية الولاية | ||
المنح والكفالات | مسؤولية الولاية | ||
مكافآت عناصر المركز | مسؤولية الولاية | ||
التسليح | مسؤولية الولاية | ||
نفقات السيارات والآليات | مسؤولية الولاية | ||
تنقلات السيارات والآليات
(داخل الولاية) |
من اختصاص أمير المركز | • بالتنسيق مع الوالي وأمراء القواطع
• في حالة الاستنفار تعطى الصلاحية لأمراء القواطع مع إشعار أمير المركز كتابياً |
|
واجبات عناصر المركز | مسؤولية الولاية | ||
المعدات اللازمة
إلكترونيات- حواسيب- قبضات (أجهزة تواصل لاسلكيّ) |
مسؤولية الولاية | ||
تعيين أمير المركز | بالتنسيق مع الديوان | بالتنسيق مع الوالي | في حال الخلاف وتعذر الحل في خلال 10 أيام ترفع المسألة إلى لجنة الإشراف العامة |
عزل أمير المركز | من صلاحيات الوالي | إذا حصل العزل من دون إخطار، ترفع شكوى إلى اللجنة | يجب إخبار الديوان بكتاب رسمي قبل شهر من العزل. |
إجازات أمير المركز | من صلاحيات الوالي | يحق له الاعتراض وتأجيل الإجازة لضرورة العمل | |
تعيين نائب أمير المركز | بالتنسيق بين الوالي وأمير المركز | اقتراح المناسب وتقديم النصيحة | للوالي القرار النهائي وإن اعترض رئيس المركز |
عزل نائب أمير المركز | من صلاحيات الوالي | يجب إعلام أمير المركز قبل العزل بعشرة أيام. | |
إجازات نائب أمير المركز | من صلاحيات أمير المركز | تطلب من الوالي إذا كانت خارج الولاية | |
تعيين موظفي المركز | من صلاحيات أمير المركز | ||
عزل موظفي المركز | من صلاحيات أمير المركز | يعلم الوالي بكتاب رسمي يبين سبب العزل | |
إجازات موظفي المركز | من صلاحيات أمير المركز | تطلب من الوالي إذا كانت خارج الولاية | |
إنشاء مكاتب في القواطع | مسؤولية أمراء القواطع | يجب إعلام الديوان بكتاب رسمي | |
تعيين أمراء المكاتب | مسؤولية أمراء القواطع والمركز | إذا حصل خلاف يرفع الأمر إلى الوالي | |
عزل أمراء المكاتب | من صلاحيات الوالي | يجب إعلام أمير المكتب قبل العزل بخمسة أيام | |
إجازات أمراء المكاتب | من صلاحيات أمير القاطع | تطلب من الوالي إذا كانت خارج الولاية | |
تعيين موظفي المكاتب | من صلاحيات أمير المركز | بالتنسيق بين أميري المركز والقاطع | |
عزل موظفي المكاتب | من صلاحيات أمير المركز | بالتنسيق بين أميري المركز والقاطع | |
إجازات موظفي المكتب | من صلاحيات أمير القاطع | بعد موافقة أمير القاطع. تطلب من الوالي إذا كانت الإجازة خارج الولاية | |
مراسلة المركز | من صلاحيات الوالي | يرسل كتاب موجه إلى الولاية – المركز | يجب على الوالي إيصاله خلال ثلاثة أيام من إرساله |
مراسلة الديوان | من صلاحيات الوالي | يراسل المركزُ الديوانَ عبر الوالي ويحق للمركز مخاطبة الديوان مباشرة مع إرسال نسخة من المكاتبة إلى الوالي. | |
دورات تدريبية | من صلاحيات الوالي | يجب أن يُقِرَّها الديوان | يُلزم الوالي العناصرَ بحضورها بعد أن يقرَّها الديوان |
استنفار موظفي المركز | من صلاحيات الوالي | ||
استنفار موظفي المكتب | من صلاحيات أمير القاطع |
طبعاً هناك في “الدولة الإسلامية” سلطات أخرى غير الحسبة التي “تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر”.وتحت عنوان “العلاقات العامة”، يحثّ كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة” على التشاور والتنسيق باستمرار بين دواوين التنظيم وإداراته، وهذا على خلاف علاقته بالناس ومجتمعهم المقتصرة على العنف اللفظيّ والجسمانيّ والمعنويّ.
ويتسلسل التشاور والتنسيق، بحسب نص الكتاب، فيشملان الدواوين والإدارات التي تشكّل مؤسّسات “الدولة”، وهي التالية:
– الخليفة أو ممثله
– ديوان الدعوة والمساجد
– ديوان العدل والمظالم
– ديوان البحث والدراسة
– ديوان التعليم
– ديوان الصحة
– الإدارة العسكرية العامة للجيش
– إعلام الدولة
– هيئة الهجرة
– مكتب العقارات
– مكتب الأمن العام
– ولاة المحافظات.
يرشد النص أعضاء الحسبة، أو شرطتها الميدانية، إلى طلب المشورة من هذه الجهات. ويحضّهم على أن رفع التقارير والاقتراحات إليها وعلى تسلّمها منها.
ويطلب الكتاب من جهاز الحسبة أن ينسِّق خصوصًا:
وهذا التشابك الإداري بين مهام الدواوين يبيّن، نظريًا على الأقل، أن “الحسبة تعدّ أشمل الولايات [الوزارات أو الإدارات] الشرعية، نظرًا وتصرفًا، لأنها تشمل أمر الناس بالطاعات”. وهذا حسبما يرد في نص الكتاب.
على سبيل المثال، تبين الوثيقة التالية، المحفوظة في “متحف سجون داعش: طلباً من ديوان الحسبة لـ “أمراء المراكز” كي يتعاونوا مع ما يسمّيه ” هيئة التصنيع والتطوير العسكري”، في منحها الإبر المصادرة من أجهزة استقبال البث الفضائي[2]، والخمر المصادر. ويعلّل هذا الطلب بحاجة “هيئة التصنيع والتطوير العسكري” المذكورة إلى المواد المصادرة في عملها.
حدّد كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة” أنواعاً واسعة ومختلفة من “الانتهاكات” و”المخالفات” و”الجرائم”، وفصّل طرق التعامل معها، والعقوبات التي تستوجبها، وفق منطق ديني خاصّ، ومنهج متشدِّد، وضع أهالي المناطق التي سيطر عليها التنظيم أمام واجبات جديدة، وقوانين تفصيلية تتدخل في أبسط شؤونهم، وتجعل جميع تحركاتهم، حتى داخل منازلهم، خاضعة للرقابة الشديدة والتقييد والمحاسبة.
تُعتبَر “العقوبات التعزيرية” أبرز العقوبات التي جاء الكتاب على ذكرها، ويشير مصطلح “التعزير” في النصوص الإسلامية إلى عقوبات غير محددّة على جرائم مختلفة، وفي تلك الحالات رُجع في تحديد العقوبات إلى “من يملك المعرفة الشرعية”، أي أحد فقهاء الشريعة، أما تطبيق أحكام “الحدود” المذكورة في النصوص الإسلامية، فتطلب معايير صارمة لإثبات المخالفة.
حصر تنظيم الدولة عقوبات “التعزيز”، التي غالباً ما تمثّلت بـ “الجلد التأديبي”، بمقر الحسبة، أو بالمراكز التابعة لها، لكن إذا رأى الشرعي سببًا وجيهًا لإنزال عقوبة الجلد في مكان آخر – مكان عام مثلًا – كان عليه طلب إذن من والي المحافظة. وتعيّن للجلد استخدام “سوط”، استبدله عناصر التنظيم غالباً بكابلات الكهرباء أو خراطيم المياه.
اشتمل الكتاب أيضاً على بعض المحاذير في تطبيق العقوبات، تضمنت مثلاً على منع حلق شعر الرأس كعقوبةً تأديبية، إلا إذا كانت المخالفة متعلقة بشعر المخالف، فـ “قصّ الشعر بلا ضرورة ممارسة جاهلية ينبغي تجنّبها”، حسب الكتاب عينه. وإذا أراد عناصر الحسبة تنفيذ عقوبات من قبيل إزالة مخالفات، كهدم الأضرحة، وجب عليهم التنسيق مع سلطات الولاية.
نستعرض في هذا التحقيق مجموعة من “الانتهاكات” أو “الجرائم” التي تقع ضمن اختصاص جهاز الحسبة، مع بيان العقوبات التي تترتب على مرتكبيها، وفق كتاب اللائحة العامة لديوان الحسبة.
تنقسم “الانتهاكات” الدينية وفق “اللائحة العامة لديوان الحسبة” إلى ثلاثة أنواع هي التالية: ترك الصلاة الإفرادية، ترك صلاة الجماعة، وعدم صيام شهر رمضان.
بالنسبة إلى ترك الصلاة الفردية شدد التنظيم على ضرورة أداء الرجال صلواتهم في المساجد، وينص كتاب “اللائحة العامة” على الطلب من “ديوان الحسبة” التنسيق مع “ديوان الدعوة” لتحقيق ذلك. ويوصي الكتاب “إعلام الدولة” بوضع لافتات في الأماكن العامة تحث الناس على الصلاة في المساجد. وقد راقب جهاز الحسبة التزام الناس بالصلوات الخمس. وقد ركّز عناصره كثيراً على الرصد والمراقبة.
يتوجب على التجار وسواهم من العاملين أن يتوقفوا عن العمل في أوقات الصلاة، وأمرت الحسبة بإغلاق جميع مرافق العمل فورًا عند رفع أذان الصلوات. وكانت سيارات الحسبة، وفيها مكبرات صوت، تجوب الشوارع مطلقة الأذان بدورها.
تبدأ الصلاة بعد 20 دقيقة من الأذان وهي الوقت اللازم بحسب التنظيم للتوضّؤ والتحضُّر للصلاة، وليس للتجارة ولا لأي نوع من العمل. وامتدّ الإغلاق الإجباري 20 دقيقة بعد إقامة الصلاة. واختُصِر إلى 15 دقيقة بعد صلاة المغرب فقط. وأنزلت الحسبة بالتجار وأصحاب الأعمال المخالفين العقوبات التالية:
وإذا استمرت مثل هذه المخالفات، عوقب الفاعل بالإغلاق ثلاثة أيام عن كل مخالفة مع غرامة قدرها “جرام من الذهب أو ما يعادله بالعملة المحلية”. وأُلزِم كل من يُغلَق محلُّه بوضع لافتة على واجهته لشرح سبب الإغلاق.
أما في ما خصّ ترك صلاة الجماعة فقد شدّد التنظيم في فرضها على الرجال، وخصّص عقوبات لمن لا يلتزم بها، بالرغم من أنها ليست شرطاً لصحّة الصلاة مُجمعاً عليه فقهياً. أَوكَل التنظيم إلى أئمة المساجد مراقبة حضور الرجال صلوات الجماعة، وتسجيل أسماء المتغيّبين عنها، وزيارتهم لوَعْظهم وتذكيرهم بضرورة الصلاة في المسجد.
وإذا لم يستجب المتغيّبون ترفع بهم شكاوى إلى جهاز الحسبة الذي يستدعيهم بدوره إلى مركزه للتحقيق معهم، وفي حال أظهر التحقيق أنهم يصلون في بيوتهم، تقدم لهم الأدلة الشرعية على تفضيل صلاة الجماعة على الصلاة الفردية، وتفرض عليهم كتابة تعهد يلزمهم صلاة الجماعة في المسجد. وإذا أظهر التحقيق أنهم تركوا الصلاة قطعًا، يكتبون تعهدًا يلزمهم حضور صلاة الجماعة ودورة “توبة شرعية”. وإذا استمر تغيّبهم عن تلك الصلاة (الجماعة في المسجد) عوقبوا بجلدهم 30 جلدة، وسجنهم ثلاثة أيام، وحضورهم دورة شرعية. وإذا تكرر تغيّبهم بعد ذلك فيُحالون على المحاكمة في “المحكمة الشرعية العامة”. وهذه مرتبتها أعلى من الحسبة وعقوباتها أشدّ.
أمّا الإفطار في رمضان فقد تشدّد التنظيم فيه أيضاً، وسنّ تشريعات تلزم الجميع بالصيام، وتولّى ديوان الحسبة تنفيذ تلك التشريعات وأحكامها. وراحت دوريات الحسبة تجوب الشوارع بحثًا عن مفطرين. فإذا ضبطوا أحدهم مفطرًا باشروا “أخذ الأدلة الدالّة على الجرم (مثل بقايا طعام أو رائحة)” في فمه، وسجلوا شهادات الشهود بحسب ما ورد في كتاب “اللائحة العامة”.
يحقِّق عناصر الدورية مع الشخص غير الصائم للتأكد مما إذا كان قد أفطر لسبب شرعي (في سن ما دون البلوغ، وسن العجز، السفر أو المرض أو الإصابة بآفة عقلية. والنساء أثناء الحيض أو الحمل أو الإرضاع). وفي هذه الحالات يُنصح المفطر بألا يأكل في العلن.
أما المفطر بلا عذر شرعيّ فعقوبته “كتابة تعهد بتوبته إلى الله” وجلده 70 جلدة، وحضوره إجباريًا دورة شرعية، وكان لعريف الحسبة أو المحتسبين الخيار بين جلده في مقر الحسبة أو في مكان عام. ففي بعض الأحيان “يعزِّز جلد الفاسقين” في العلن “المصلحة العامة”. وإذا كرّر المفطر فعلته، يعتقل ويحُوِّل إلى المحكمة الشرعية العامة لتعزيز عقوبته.
وفي شهر رمضان حُظِّر كليّاً فتح المطاعم والمقاهي ومحال العصائر طول النهار، ومُنِعت من خدمة “غير المسلمين من أهل الذمّة” (اليهود والمسيحيّين).
فصّل كتابُ “اللائحة العامة” ما اعتبره “جرائم عقدية” وقسّمها إلى ثلاثة أنواع: الكفر، والسحر، والزندقة.
شملت هذه الجريمة سب الله أو الرسول أو الدّين. وإذا اتُّهم شخص ما بها، نتيجة شكوى من مخبر أو أحد العامة، أوصى كتاب “اللائحة العامة” عناصر الحسبة بتسجيل المعلومات ذات الصلة: وقت الحادثة، تاريخها ومكانها، أسماء الشهود وعناوينهم، وأسماء العناصر الذين اعتقلوا المُتَّهم. ونَصَّت التعليمات على تسجيل إفادات الشهود والمتهمين تسجيلًا حرفيًا. وأُحِيل المُتَّهمون في هذه القضايا على المحكمة الشرعية لمعاقبتهم.
أما إذا قبض على متهم لتلفظه بعبارة أو كلمة يعتبرها التنظيم كفرًا، فوجب على عناصر الحسبة تسجيل ما سمعوه من المتهم بدِقّة وذكر كيفيّة سماعه. ونصّت التعليمات على توثيق حالة المتهم العقلية، لكن هذا لم يساعد المتهمين دائماً. فعلى سبيل المثال، في العام 2016، حُكِم بالإعدام على شخص يُدعى ماجد، لأنه “سبّ الله” أثناء خلاف عائلي. في أثناء التحقيق معه قال إنّه كان وقتها في حالة من اليأس، وأعلن توبته أمام القاضي، الذي كتب في وثيقة الحكم: “الإعدام”، “لم تُقْبل توبته”.
واعْتُقِل أناس لأنّهم “حلفوا بغير الله”، وعمل “ديوان الحسبة” بالتنسيق مع “ديوان الدعوة والمساجد” على نشر الوعي بين الناس عن “خطورة هذه المخالفة”، وحُكِم على المتهمين بهذه التهمة بجلدهم 30 جلدة وسجنهم ثلاثة أيام وحضورهم الإجباري دورة شرعية، في المرّة الأولى. أما في المرّة الثانية فتُرفع عقوبتهم إلى 90 جلدة وسجنهم إلى 10 أيام. وإذا تكررت المخالفة بعد ذلك، أحيل المتهمون إلى المحكمة الشرعية.
الزندقة أو “العقائد المنحرفة”
اضطهد تنظيم الدولة خصومه الدينيّين بالشراسة نفسها التي اضطهد بها خصومه السياسيّين. وشمل ذلك سائر المذاهب الإسلاميّة وجميع تجليات الإسلام السنّي التي لا تتوافق مع تشدّد، وحتّى السلفيّون الجهاديّون غير المنتمين إلى تنظيمه جعلهم في عداد أعدائه السياسيين، فاعْتقلهم في سجونه “الأمنية” وليس في سجون الحسبة.
التصوُّف والسحر
ربط التنظيم الصوفية بالسحر،لكن غالبًا ما اقتصر اضطهاده أتباع الصوفيّة والسحر على ديوان الحسبة. وكانت الصوفية من أشكال التديّن السائدة في الرّقة. ومن تقاليد أهل التصوف الشعبي زيارتهم أضرحة الأولياء الصالحين. لذلك سمَّاهم التنظيم “القبوريين أو عبدة القبور”، ودمّر الأضرحة والمزارات، واستعان بفرق المتفجرات لنسفها، بعد أنّ نصَّت التعليمات على تدميرها بأسرع وقت. وإذا كان للضريح حارس أو ناطور أحيل إلى المحكمة الشرعية لمحاكمته، كمثل من يزور الضريح. وارتبطت الأضرحة عند التنظيم بالصوفية والتشيّع، لأن الأضرحة تركز على الأولياء بدلًا من التركيز على الله وحده، وهذا من “الشرك” في شريعته.
وأبرز عقوبة أنزلها التنظيم بشخصيّة صوفيّة، إعدامه في كانون الأول/دسمبر العام 2014، الشيخ محمد توفيق عجان الحديد وهو في الـ90 من عمره.
كما أنّ تنظيم الدولة حارب كل ما له علاقة بأعمال السحر والمشعوذين، وأَوْصَتْ تعليماته المحتسبين بمراقبة من يُشكّ فيهم لاتباعهم “العقائد المنحرفة” واعتقالهم وتفتيش منازلهم عند اللزوم، وإحالتهم إلى المحكمة الشرعيّة لمحاكمتهم.
وإذا اتُّهم شخص ما بـ”ممارسة السحر والشعوذة”، طُلِبَ من المحتسب وضع تقرير مُفَصَّل عن التهمة، يتضمّن معلومات عن مصدرها، فيذكر مثلاً أنّها وردت في تقرير من مُخْبِر سرّي أو سوى ذلك، إضافة إلى وصف “مكان الجريمة” والأشياء الموجودة فيه. ونصّت التعليمات على تفتيش المتهم ومكان جريمته وتسجيل إفادته، وإتلاف المواد التي يستخدمها (كالقلائد والحجابات) وإحالته على المحكمة الشرعيّة.
وفقًا للنسخة السلفيّة المتشدِّدة من الإسلام التي تبنّاها التنظيم، لا يجوز أن يزيد ارتفاع شاهدة القبر عن شبر فوق الأرض. وقد أطلق ديوان الحسبة، بالتنسيق مع المساجد وديوان الدعوة، حملات لتوعية الناس على هذا الحكم. فتحوّل الأمر من خيارٍ أخذت به بعض العائلات إلى قانون ملزم.
وأضاف “ديوان الحسبة” أيضاً تعليمات موجَّهة إلى أمراء مراكز الحسبة تشرح لهم “آلية التعامل مع مجالس العزاء”، وسمَحت لذوي الميت بنصب خيمة عزاء بعد مراجعة مكتب الحسبة الموكّل بتقرير حاجة أهل المتوفّى لنصبها، في حال توفّر بعض الأسباب، من مثل ضيق البيت أو عدم وجود غرف استقبال. كما يشترط القرار عدم إيذاء الناس أو إزعاجهم بنصب الخيمة. والوثيقة التالية منشورة بتاريخ 16 نيسان/أبريل العام 2016، محفوظة في “أرشيف متحف سجون داعش”.
خصّص كتاب “اللائحة العامة” فصلًا لِمَحالّ الخدمات النسائية، وطلب من عناصر الحسبة إحصاء “الصالونات” المسموح لها تقديم خدمات نسائية، مثل الخياطة وتصفيف الشعر والتجميل والحنّاء. ويظهر في هذا الفصل من الكتاب ارتياب التنظيم من أن تلك الصالونات تتيح حدوث “منكرات” عدة منها:
وأوصى كتاب “اللائحة العامة” بمنع النساء اللواتي يقبض عليهن المحتسبون “بالجرم المشهود”، أي أثناء مخالفتهن القواعد المنصوص عليها في الكتاب، من دخول الأسواق. وتنصّ التعليمات على “وعظهن” و”توبيخهن”. وكان هناك تشديد على أهمية دور الفرقة النسائية التابعة للحسبة و”الأخوات المتعاونات” في مراقبة النساء وضبط مخالفاتهن. ويشير النص إلى تسيير دوريات تفتيش مفاجئة للتأكّد من التزام الناس بالقواعد، على أن تتألّف الدورية من محتسبَيْن اثنين على الأقل. وتطلب التعليمات من عناصر الحسبة ألا يرفعوا أصواتهم عند محاسبتهم النساء، وألّا يعنِّفوهنّ لفظيًا بما يذيعونه من مكبرات الصوت. ويوصي النص بإنشاء سوق خاصّة بالنساء تُشرف عليها فرقة الحسبة النسائية.
وخصّ كتاب “اللائحة العامة” محالّ الذهب والصرافة ببعض التعليمات عن سلوك العاملين فيها مع النساء. فحظر على موظّفي تلك المحال لمس النساء أثناء تفحصّهن المجوهرات وتجريبها قبل شرائها. وفُرض على صاحب المحل كتابة تعهّد يتحمل فيه مسؤولية فرض ذلك على موظَّفيه. وكانت عقوبة المخالفة للمرة الأولى إغلاق المحلّ يوماً واحداً و70 جلدة للشخص المخالف. وفي المرّة الثانية يُغلق المحلّ ثلاثة أيام مع غرامة قدرها غرام من الذهب، مع جلد الموظف الذي ارتكب المخالفة 90 جلدة وطرده من العمل. وإذا تكررت المخالفة مرة ثالثة أُقفِل المحل أو المكتب بِشكلٍ نهائيّ.
كما عمل “ديوان الحسبة” مع “هيئة الخدمة العامة” على وضع قواعد عمل محالّ الذهب وصرف العملات. ونسق مع “مكتب الدراسة والبحث” للتأكّد من أسعار صرف العملات وأسعار بيع المعادن الثمينة وشرائها. ونسق أيضًا مع “بيت المال” في ما يتعلّق بقواعد المعاملات التجارية. وقد فرض المحتسبون على أصحاب المتاجر والمكاتب كتابة تعهّد بعدم اعتماد الربا، أي تقاضي الفائدة على المعاملات.
الأعراس واحتفالات “الكفّار”
راقبت دوريات الحسبة الحفلات التي أقيمت في البيوت وصالات المناسبات، وتفقّدتها. لكن كتاب “اللائحة العامة” أوصى المحتسبين أن يداروا الناس أثناء احتفالهم بأعراسهم، “كي لا يُسَبّبوا الفوضى”، ودعاهم إلى “مراعاة فرحة الناس في تلك المناسبات”. أما إذا ارتكب العريس مخالفة ما، فقد أوصى الكتاب باستدعائه إلى التحقيق، بعد انتهاء حفلة العرس، بدل اعتقاله في أثنائها.
وقد ركّز النص على ثلاثة أنواع من المخالفات المتعلّقة بالحفلات والأعراس:
الوثيقة التالية الصادرة عن “ديوان الحسبة” تتضمن بياناً بعنوان “منع الاحتفال بغير أعياد الإسلام”، يشدد على تحريم الاحتفال بأعياد غير إسلاميّة، ويحصر الأعياد الإسلامية بعيدّي الأضحى والفطر، وبناء على هذا اعتُبِرت كلّ الأعياد الأخرى مخالفة والاحتفال بها محرّمأً، ويُذكر منها: “عيد المسيح، عيد النيروز، عيد الحب، عيد رأس السنة، عيد الاستقلال، غدير خم، عيد الميلاد، اليوم الوطني، المولد النبوي”.
المخدرات: جَلْد ومصادرات
حظَّر التنظيم المخدرات كما في دول كثيرة. لكن تعامله مع متعاطيها ومُدْمِنيها كان عقابيًّا صرفًا، ولم يشمل أي نوع من معالجة الإدمان. وأوكلت مهام ملاحقة متعاطي المخدرات، بما يشمل اعتقالهم ومعقابتهم، إلى جهاز الحسبة.
قسّم كتاب “اللائحة العامة” المخالفات المتعلقة بالمخدرات إلى فئات: التعاطي والحيازة والتجارة والزراعة والتهريب.
الكحول: جلد ومحكمة شرعيّة
طبق تنظيم الدولة تحريم الكحول بلا هوادة، فأقفل الحانات، ونشر جهازُ حسبته مخبرين لمراقبة من يُشتَبَه في أنّه يعاقرها. ولم يختلف تقسيم المخالفات المتعلِّقة بالكحول عن تلك المتعلقة بالمخدرات: الشرب بدل التعاطي، والتصنيع بدل الزراعة. وإن تماثلت عقوبات الكحول مع عقوبات المخدّرات إلا أنها بقيت أخف قسوة منها بقليل.
التدخين وتجارة التبغ والسجائر
منع التنظيم التدخين منعًا تاماً ممّا سبّب معاناة كبيرة للمدخِّنين الكثر في مناطق سيطرتها. لذا أصبح تهريب السجائر إلى الرقّة والإتّجار السري بها فيها مصدراً جيّداً لكسب المال، بالرغم من الأخطار المُحْدِقة بذلك. وانعدام مصادر الرزق والكسب حمل كثيرين على الاستهانة بمخاطر التهريب.
كان معظم كبار المهربين والتجار من الرجال، إلا أنّ بعض النسوة عملن في هذه التجارة على مستويات أدنى. وقد نصّت التعليمات على مصادرة السجائر وإتلافها أينما ضُبِطت، سواء أكان ذلك مع مدخن أو ناقل أو مهرب أو تاجر. وقد حدّدت العقوبات وفقًا لنوع المخالفة، على النحو التالي:
“الزنا” و”اللواط” و”القوادة”
طبق تنظيم الدولة الإسلامية حظرًا شديدًا على الممارسات الجنسية غير الزوجية، وأحال من اتهمهم من النساء والرجال بتلك الأفعال إلى المحكمة الشرعية العامة لمحاكتهم. وشدد عناصر الحسبة الرقابة على العلاقات “غير الشرعية” بين الرجال والنساء، وشمل ذلك أي تواصل منفرد بين رجل وامرأة لا تربطهما قرابة أو زواج. وإذا اكتشف عناصر التنظيم أن رجلًا يستغل عمله في “علاقات غير شرعية”، حُظِر عليه العمل.
ويوصي كتاب “اللائحة العامة” عناصر الحسبة ألّا يدوِّنوا، في محاضر الاعتقال وطلبات الإحالة، أنّ “الشخص مارس الجنس أو اللواطة”.
إذا توفر شريط فيديو كدليل على “الزنا”، نصت التعليمات على مشاهدة المحتوى بدقة في الحسبة، شريطة “ألا يشاهده عنصر وحده”، بل ثلاثة، على أن يُمنع أي “عنصر عازب” من مشاهدته. وعلى المشاهدين الثلاثة كتابة ما شاهدوه في التقرير. وتُحفظ الأدلّة في أرشيف مغلق عند عريف المركز، وتُتلف بعد البت في القضية.
عقوباتها: هذه المخالفات كلها تساوت عقوباتها. فالمخالفة للمرة الأولى عقوبتها السجن ثلاثة أيام و 30 جلدة وحضور دورة شرعية. في المرة الثانية تصبح العقوبة السجن 10 أيام و70 جلدة. وفي المرة الثالثة ترفع العقوبة إلى السجن 15 يومًا و90 جلدة. وكان من صلاحية ناظر الشرع أو العريف زيادة العقوبة، إذا ارتأيا ذلك. وعند المخالفة مرة رابعة يُحال المذنب على المحكمة الشرعية العامة لمحاكمته.
“المنكرات” في سيارات النقل العام
اشترك “ديوان الحسبة” و”ديوان الخدمات العامة” ودوريات عناصر التفتيش على الطرق، في تنظيم ومراقبة عمل سيارات النقل العام، وتنقل الركاب ذكوراً وإناثاً فيها. وفُرض إلصاق وثيقة معلومات في هذه السيارات تبيّن: نوعها، المعلومات الشخصية عن سائقها وصاحبها، وتفاصيل بمخالفاتها السابقة. ونصّت التعليمات على وجوب أن يوقّع صاحب السيارة هذه الوثيقة. وإذا اكتشف عناصر التنظيم أنّ السائق يستغل عمله في “علاقات محرمة، سواء مع صبيان أو نساء”، عوقب بمنعه من العمل سائقًا منعًا ناجزاً.
وغالبًا ما تشيع في العادات الشعبية كتابة أقوال مأثورة في باصات وسيارات النقل العام، وأحيانًا في سيارات خاصىّة. ويُدون في بعض هذه الكتابات اسم الله أو النبي. وفي أخرى تُدون عبارات أو كلمات تسمي الباصات والشاحنات أسماء أنثوية يُفترض أنها للتحبّب أو التسلّي. ويشيع أيضًا وضع تمائم أو حجابات وأشياء أخرى في الشاحنات وباصات النقل العام والسيارات الخاصة. لكن التنظيم اعتبر هذا كله من “المنكرات”.
أما الموسيقى والأغاني فمُنعت في السيارات العامة والخاصة، سواء بُثت من محطات إذاعية أو من مسجلات. وأوكلت إلى عناصر الحسبة مهمة شرح القواعد المفروضة، والحصول من السائقين على تعهدات خطية بطاعتهم تلك القواعد. وأوصت التعليمات عناصر الحسبة بوضع لافتات لزيادة الوعي وإعلام الناس بالقوانين الجديدة. وركزت الحسبة على ستة “منكرات”:
رقابة على مراكز الرياضة وألعاب الفيديو
خرج المحتسبون في دوريات مراقبة وتفتيش مفاجئة للأندية الرياضية والمسابح، للتأكد من التزامها بالقواعد المفروضة ومنع المخالفات فيها. فركّزوا على ألا تُقام إذا ما ظهر فيها:
تفرض العقوبات على خرق هذه القواعد بمجرّد ضبط المخالفة الأولى فيها، بعد تحذير أصحاب الأندية الرياضية وحملهم على كتابة تعهّد بعدم تكرارها، وتصل هذه العقوبات إلى إغلاق المنشأة لمدة يوم عن كل مخالفة. وقد أُلزم أصحابها بوضع لافتة على مدخلها تشرح سبب الإغلاق. وطُلب من عناصر الحسبة التنسيق مع “ديوان الدعوى” لتنظيم حملات دعويّة في المراكز الرياضية.
وفاجأت دوريات الحسبة صالات التسلية وألعاب الفيديو بزيارات استطلاع وتفقد، ومعاقبة مخالفي تعليمات التنظيم، ومنها وجوب إزالة صور المخلوقات الحية من أجهزة الألعاب. ويذكر كتاب “اللائحة العامة” عددًا من المخالفات التي يجب منعها ومعاقبة مرتكبيها في هذه الصالات:
في الوثيقة التالية التي يحتفظ متحف سجون داعش بنسخة منها، يطلب “ديوان الحسبة” من الأمراء في ديوان الحسبة في “الولايات” منع صالات البلياردو، وإبلاغ أصحاب الصالات بتغيير نشاطهم إلى مجالات أخرى، ونقل طاولات البلياردو إلى خارج الأراضي التي يسيطر عليها داعش.
الموسيقى والإنترنت والتوجّس من “الإباحية”
منع “داعش” سماع الموسيقى والأغاني بالهواتف أو يالمسجلات، وقد نصّت التعليمات على “التعامل بعنف” مع المخالفين، على أن تُشرح القواعد لهم، وتُصادَر الأقراص المُدمَجة (الـ CD)، على أن تترك أجهزة تشغيل الموسيقى مع أصحابها. وفي حال المخالفة للمرة الثانية يعاقَب المخالِف بـ 10 جلدات ويُفرَض عليه حضور دورة شرعية ومصادرة الشريط وجهاز التشغيل. بعد ذلك تُرفَع العقوبة إلى 30 جلدة وغرامة بقيمة غرام من الذهب.
كما حظّر “داعش” الإنترنت في البيوت، وبسبب خرق هذا الحظر سُجن علىى الأقلّ طفلٌ واحدٌ في سجن الملعب في الرقة. أما مقاهي الإنترنت فقد سُمِح لها بالعمل بالرغم من رعب التنظيم من “الإباحية” أو “الشرور” التي قد تشيعها صور الشبكة الإلكترونية وأفلامها، وذلك لسهولة مراقبتها على الأرجح.
ويشير كتاب “اللائحة العامة” إلى المحتوى المرئي والصوتي (الفيديو كليب للأغاني المصورة) باعتابره “إباحيًا” و”مُحرَّمًا”. وقد أوكِلت مسؤولية مصادرته وإتلافه إلى عناصر الحسبة. والأرجح أن رعب التنظيم من تلك الصور والأصوات التي عدّها إباحية، حمله في حالات كثيرة على مشاهدة المحتوى الإباحي (أفلام الفيديو كليب الغنائية، والأخرى العادية التي يصورها الناس في حياتهم العادية ويتبادلونها)، وذلك لمعرفة من شارك فيها وماذا ارتكب أولئك المشاركون من “شرور” لإنزال عقوباته بهم. ويشترط النص أن يقوم بذلك العمل (المشاهدة ) محتسبان على الأقل، وينبغي أن يكونا متزوِّجين. وهناك تفاصيل عن التعامل مع المحتوى الإباحي “غير الأجنبي”، أي المنتج محليًا، كأن يفرض أن يكتفي المحتسبون بمشاهدة أجزاء من أوّل الشريط ووسطه وآخره.
في بعض الحالات لم يُتلف المحتوى الإباحي، بل حُفظ، إذا كان دليلًا في قضية ما، في خزنة مقفلة عند عريف الحسبة أو الناظر الشرعي أو أمير السجن. ويحذر كتاب “اللائحة العامة” من أربعة “شرور” قد تظهر في مقاهي الإنترنت:
وفي تقريره عن هذه المخالفة طُلب من المحتسب جمع المعلومات التالية:
أما المكتبات فقد نظّمت شرطة الحسبة حملات لتفتيشها، وأدرجَت “اللائحة العامة” بعض الكتب المعروضة فيها في باب “الشرور” وأهمها شرّان:
يحتفظ أرشيف متحف سجون داعش بنسخة عن الوثيقة الصادرة عن “ديوان الحسبة” بعنوان “كيفية التعامل مع الكتب والتسجيلات الصوتيّة والمرئيّة لأهل البدع والضلال”، وهي تحدِّد آلية التعامل مع الكتب والمطبوعات، المرئية والمسموعة، وتوصي بضبط الكتب المخالفة ومصادرتها وإتلافها، وإبلاغ صاحب المحل بعدم تعويضه عنها وأخذ تعهُّدٍ خطي منه بذلك.
سمح “داعش” بشكلين فقط لقصّة شعر الرجال: قصير أو طويل، بلا اصطناع أشكال “غربيّة” محظورة، مثل القزع، أي حلاقة الشعر من أطراف الرأس وتركه طويلًا في باقي الرأس. وعلل كتاب “اللائحة العامة” هذا الحظر برده إلى زمان رسول الله، عندما “حلق بعض أعداء الإسلام شعرهم بهذا الشكل” فاقترن الشكل بـ”الكفر”. وديوان الحسبة منع ما سماه “جميع حلاقات الكفار”. وعوقب من يحلق شعره على شكل مخالف للقواعد، بحلق شعره كله. وإذا كرر المخالفة ثانية، عوقب ب ـ30 جلدة وحضور دورة شرعية. وفي المرة تُرفع العقوبة إلى السجن ثلاثة أيام مع 90 جلدة، وفي الرابعة إلى 15 يومًا سجناً وإلى 90 جلدة. وقد فرض التنظيم على الرجال إطلاق لحاهم والامتناع عن قصها أو حلقها. يحَّذَر المخالف في المرّة الأولى، وإذا عاد وحلق لحيته ثانية عوقب بـ 10 جلدات وبحضور دورة شرعية. أما الحواجب فقد حُظِّر نتفها على الرجال والنساء.
تورد الوثيقة التالية الصادرة عن ديوان الحسبة بتاريخ 27 تشرين الأول/أكتوبر العام 2015، مجموعة من الأحاديث النبويّة عن منع حلق اللحية للرجال، وتشدِّد على ضرورة مُعاقبة مَنْ يخالف هذا القرار، على اعتبار أن الرسول أوصى بإطالة اللحية والعناية بها، وعدم الالتزام يستدعي العقاب.
عرّضت مخالفة هذه القواعد الفاعلين من الحلّاقين وزبائنهم للمساءلة والوعيد. وبالتنسيق مع إعلام التنظيم وديوان “التعليم والدعوة والمساجد”، أصدر ديوان الحسبة تعميمات بتلك القواعد، ونظّم حملات توعية لتطبيقها، وطبع لشرحها منشورات ووزعها، ووضع لافتات في الطرق. وكثيراً ما داهمت دوريات الحسبة صالونات حلاقة شعر الرجال لإنفاذ تلك القواعد.
وبعد التحذير عند مخالفة هذه القواعد للمرة الأولى وإمضاء تعهّد بعدم التكرار، يكون الحكم في المرة الثانية السجن ثلاثة أيام والجلد 30 جلدة، وفي المرة الثالثة تضاف متابعة الدورة الشرعية إلى هذه العقوبة، أمّا في المرة الرابعة فتكون العقوبة السجن شهراً واحداً وتلقّي 90 جلدة وحضور دورة شرعية. وإذا ما تكرّرت المخالفة، أحيل المخالِف على المحكمة الشرعية لمحاكمته. أما المحلات التي تُخالف بعد التحذير فتُقفل لثلاثة أيام، وعند المخالفة الثالثة يُقفل المحل شهرًا واحداً. وإذا استمرّ صالون الحلاقة بعد كلّ ذلك بحلاقات محظورة ، أُقفِل نهائيًا وصودرت محتوياته.
تفحّصت دوريات الحسبة المطبوعات المعروضة للقراءة في صالونات الحلاقة. فصادرت الصحف والمجلات التي تحوي صوراً “فاحشة”. وقد تعاون عناصر الحسبة مع فروع “ديوان الدعوة” المحليّة لتقديم كتيِّبات دينيّة ملائمة لصالونات الحلاقة.
ولم تنجُ محلّات الخياطة والخيّاطون وثياب الرجال من رقابة الحسبة وقواعدها وممنوعاتها. فبالتعاون بين “ديوان التعليم” و”ديوان الدعوة والمساجد” وضع “ديوان الحسبة” قواعد اللباس الصحيح للرجال. ونسَّقت الحسبة مع السلطات المختصة لمنع استيراد ملابس غير ملائمة إلى مناطق سيطرة “داعش”.
وقد حددت التعليمات مخالفات الرجال في ثيابهم وزينتهم بأنواع خمسة:
كافحت دوريات الحسبة هذه المخالفات في متاجر الألبسة ومحلات الخياطين والأماكن العامة، بالتحذير والشرح وإلزام المخالفين كتابة تعهدات باتباع قواعد اللباس، قبل معاقبتهم. أما المتاجر المخالفة فصودرت بضائعها وأُقْفِلت، وأُلزِم أصحابها وضع لافتة على واجهاتها تشرح سبب الإقفال.
منع التنظيم تربية الحمام على أسطح الأبنية والمنازل، وفرض تربية الطيور في أماكن أخرى. ويوصي النص المرجعي عناصر الحسبة بالتمييز بين مربي الحمام للتجارة أو الأكل، ومن يُرَبّيها للمقامرة أو لـ”كشف العَوْرات”. فُرِض على المخالف في هذا المجال كتابة تعهد، في المرّة الأولى، بعدم المخالفة ثانية وبحضور دورة شرعية. وإذا كرر فِعلتَه عوقب بـ 10 جلدات وبحضور الدورة الشرعية. أما المخالفة الثالثة فعقوبتها 30 جلدة وغرامة بقيمة غرام من الذهب، وفي المرة الرابعة يُجلَد المخالف 50 جلدة ويمنع المخالف من تربية الحمام بشكل نهائيّ.
داهمت دوريات الحسبة المحلات والمؤسسات التجارية والورش الصناعية، والمشافي والعيادات الطبية والصيدليات، لتستطلع أوضاعها وتمنع مخالفة تعليماتها فيها.
وقد حُظِّر في هذه الأماكن كلها عرض المحطات التلفزيونية غير الملائمة لتعليمات “داعش”، أي تلك التي محتواها غير إسلامي سلفي، ولا سيما بثها الموسيقى والأغاني. وسمح فقط بمحطات تذيع تلاوة القرآن. أما المحظورات والممنوعات الأخرى فاختلفت وتنوعت بين المؤسسات على النحو التالي:
منعت “الحسبة” ما يلي:
الأسعار الجائرة: تحرّت دوريات المحتسبين ودقّقت في “الأسعار الجائرة” في المتاجر. وقد حُذِّر أصحاب المتاجر بعد المخالفة الأولى ووقّعوا تعهدًا بخفض الأسعار، وإعلان التعهّد على العمّال. عند المخالفة الثانية أُقفِل المتجر ثلاثة أيام. أما المخالفات اللاحقة فعقوبتها الإقفال ثلاثة أيام مع غرامة بقيمة غرام من الذهب عن كل مخالفة سابقة.
الغشّ: حُظِر الغشّ في جميع التعاملات المتعلقة بالبضائع والسلع، وجاءت عقوباته مطابقة لعقوبات الأسعار الجائرة.
الأسماء الأجنبية والصلبان : مُنعت تسمية المتاجر بأسماء أجنبية أو “قليلة الأدب” أو “غير موافقة للشريعة”. ونصّت التعليمات على أن تكون أسماؤها الأصلية بالعربية، ويمكن ترجمتها إلى لغات أخرى. كما منع عرض الصُّلبان و”رموز الدول الكافرة” وصور الناس والحيوانات في المتاجر. وإذا أرادت مؤسسة تجارية إقامة مسابقة ما، وجب عليها طلب الإذن من “مكتب الدراسة والبحث”. ومُنعت ألعاب الحظّ واليانصيب.
حُذِّر أصحاب هذه المخالفات في المرّة الأولى وفُرِض عليهم تعهُّد بالكف عنها. وعند المخالفة للمرة الثانية أُقفِل المحل ليومٍ واحد. وعند تكرار المخالفات أُقفِل المتجر ثلاثة أيام مع غرامة بقيمة غرام من الذهب عن كل مخالفة سابقة. وفُرِض على صاحب المحل وضع لافتة تُشْهِر مخالفته.
إذا ارتُكِبت مخالفة لهذه القواعد في مشفى عام، أحال عناصر الحسبة المسألة إلى “ديوان الصحة”. أما إذا وقعت المخالفة في مشفى خاص أُلزِم مالك المشفى ومرتكب المخالفة التعهد أمام مسؤول من “ديوان الصحة” بتصحيح الأمر.
وقد أضافت تعميمات ديوان الحسبة محظورات كثيرة، منها ما جاء في الوثيقة التالية، الصادرة بتاريخ 06 تشرين الأول/أكتوبر العام 2015، والمحفوظة في أرشيف “متحف سجون داعش”، حول منع الأطباء النسائيّين الذكور عن ممارسة المهنة، وتحويلهم إلى العمل في مجال الجراحة أو التخدير.
ركز جهاز الحسبة على أربعة مسائل تتعلق بالصيدليات:
إذا خالفت الصيدليّة هذه التعليمات بعد تحذيرها، كانت العقوبة إقفالها ليوم واحد. وعند تكرار المخالفة تزاد مدّة الإغلاق وتُفرَض غرامات بقيمة غرام من الذهب عيناً أو نقداً عن كل مخالفة، وتُلزَم الصيدلية بإشهار لافتة تشرح المخالفة التي أدّت إلى إقفالها. أمّا الصيدليّة التي تبيع ما يظهر عليه شعار الحيّة فتُعاقَب بدفع غرامة بقيمة نصف غرام من الذهب عن كل يوم يظهر فيه الشعار. وقد نصّت التعليمات على ضرورة استشارة “ديوان الصحة” قبل إقفال الصيدليّات.
يشي عمل الحسبة، من خلال مرآة دستورها، بالجمع بين المأساة والمثاليّة والملهاة (ديستوبيا Dystopia ويوتوبيا Utopia كوميدي Comedy)، إضافة إلى إيحائه بشيء من تصوّر كاريكاتوري للعالم والحياة والدولة والحكم والإدارة. وهو تصوّر خالٍ تمامًا من أي نوع من الأفكار ومن التوجّهات السياسية والاجتماعية. وكأنما الناس الذين يتحدّث عنهم ذلك الدستور الإجرائيّ أو العمليّ، هم في تصورات “داعش”، وليسوا مرئيّين ولا يُنظر إليهم إلا كمرتكبي مخالفات وذنوب يجب إزالتها وتقويمهم بالعنف البدنيّ والمعنويّ.
ربما يكون هذا كله، أي المأساة والمثالية والملهاة والكاريكاتورية) نابعاً من إرادة “فقهاء داعش” تشكيل عالم من كلمات وأفعال وأحكام وتوجيهات وتعليمات لم يعد لها إلا دلالات موهومة في عالم الزمن الراهن وواقعه المادّي الملموس، كما في حياة الناس الحاليّة.
ويتمثّل هذا الخليط من المأساة والمثاليّة في كون معظم صفحات الوثيقة تدور حول معاقبة الناس وقصاصهم والاقتصاص منهم، وحول أساليب التنفيذ بناء على أحكام كُتبت أو رويت منذ قرون. كما يتبدّى هذا الخليط في قسوة تلك العقوبات الموصوفة بدقة وطَبَعيّة وكأنها في أساس حياة البشر، وهي تُنفَّذ بمنتهى البساطة بطريقة بيروقراطيّة. وقد يكون هذا من صفات القمع والاستبداد والطغيان في النظام الشموليّ، الذي وصفت المفكرّة حنة أرندت (Hannah Arendt) شرّه بالعادي والتافه.
أما الملهاة والكاريكاتورية فتكمنان في أنّ واضعي تلك الوثيقة يتصورون أنهم فقهاء ومشايخ كبار، متخيّلين أنّ لعملهم غاياتٍ كبرى سامية شبه إلهية. لكنهم حين يترجمونها إلى أفعال على أرض الواقع يبدون أشبه بمراهقين عدوانيّين حَلُّوا فجأة في عالم يجهلونه أو هم غرباء عنه، فشرعوا يحطّمونه كأنهم يلعبون في سيرك للتعذيب والجريمة.
ويفضح الكتاب تطلّعَ مجموعة من رجال ذكوريّين، “متمرّدين” وثأريّين، أو فارين ومطارَدين وخارجين من سجون، تطلّعهم إلى إنشاء دولة، يبدو واضحاً أنّهم فهموها أو استمدّوا مفهومها، وبشكل كاريكاتوري، من نظامي الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق، اللذين سبقا استيلاء تنظيم “داعش” المفاجئ على مناطق من البلدين، والذي انتهج نهجهما الاستبدادي في مراقبة أفكار الناس وكلامهم وأعمالهم وسلوكهم. وهو نهجٌ أظهر هوسًا أشدّ بكثير من هوس النظامَيْن السابقين بالتراتبية البيروقراطية. ومع أن القوانين التي فرضها جهاز الحسبة استُمِدت تصوراته من نصوص دينية قديمة، فإن هوسه بالتوثيق والتسجيل نابع من عسف الدولة القومية الحديثة.
ويظهر هذا في ما يقدمه كتاب “اللائحة العامة” لعناصر الحسبة (شرطتها) من معلومات مفصَّلة عن عمل حسبتهم البيروقراطي، ومن إرشادات فوقيّة تفصيليّة عن مجرى أعمالهم. فتحدّد لهم الاستمارات والتقارير ومحاضر الضبط اللازمة لتوثيق مخالفات الناس الكثيرة والمختلفة التي يتابعونها ويلاحقونها. وهذا هو، إضافة إلى المراقبة والعقاب، عملهم الوحيد. وبالطريقة البيروقراطية نفسها تحدد الوثيقة العقوبات على مخالفات الناس المختلفة. ويشكل هذا صورة عن عالم “داعش” البيروقراطي المهووس بالمخالفات والأحكام والعقوبات، على نحو لا يخلو من الكاريكاتورية.
وتشدّد الوثيقة على توثيق المراحل المختلفة من عملية اعتقال المُتَّهم (الضحية). وقد نتج من ذلك ملفات كبيرة جُمعت في أثناء عمليات التحقيق في المخالفات. وفي بعض الأحيان احتفظ عناصر الحسبة، في سجن الرّميلة مثلًا، بتسجيلات صوتيّة لجلسات تحقيق.
وقد اجتهد كتاب “اللائحة العامة” في تحويل أساليب جهاز الحسبة المروِّعة إلى لغة وعمل بيروقراطيّين. وهذا ما أدّى إلى نتائج غريبة وسلوكيّات مضحكة. فعلى سبيل المثال، طُلِب من المحتسب، في حال اعتقال شخص بشبهة شرب الكحول، أن ينفِّذ “عمليات شمّ” للتأكد من وجود رائحة كحول منبعثة من فم المتَّهم، ثم كتابة ما اكتشفه أو استنتجه في محضر الاعتقال الذي يُحفَظ.
ويُظهر النص تركيزًا على ادعاء “داعش” صفة الدولة، حيث تتكرر التوصية بالتنسيق بين جهاز الحسبة والهيئات الأخرى من “الحكومة” مثل ديوان التعليم، وفي كثير من الأحيان ديوان الدعوة. واعتُبرَتْ المساجد جزءًا من الدولة أيضًا، ومِن المهامّ التي أنيطت بها مثلاً تعميم قوانين الحسبة وإبلاغ المحتسبين بمخالفات تلك القوانين. وقد تعاونت المساجد وفروع داعش الإدارية مع جهاز الحسبة في حملات دعاية وترويج. على سبيل المثال: حملات لتعميم ارتداء النساء النقاب وغيره من أشكال اللباس “الإسلاموي”. وحملات ضد الصحون اللاقطة للبثّ التلفزيونيّ.
ويستشفّ من كتاب التعليمات أن الهَوَس الأساسيّ لدستور حسبة “داعش” هو التركيز على مسألتيْن أساسيّتيْن في الغالب: النساء باعتبارهنّ كائنات مُريبة يجب تشديد الرقابة عليهن، فيفرض عليهنّ التستّر والتحجّب وملازمة المنازل. أما المسألة الثانية فمدارها كل ما له صلة بالغرب والعالم الغربيّ بوصفه عالم “الكفر” و”المنكرات”.