أنشأ تنظيم الدولة الإسلامية “ديوان الحسبة” ليمارس رقابته على المجتمع المحلّي وأفراده، ولكي يرصد مدى التزامهم بعقيدته وشريعته وقوانينه التي سنّها، ويعتقل ويحاسب الذين يخالفونها، فيحقّق معهم ويحاكمهم وينفذ أحكامه فيهم، وذلك بهدف بسط سلطته عليهم وحكمهم، بناءً على عقيدة وشرع سلفيَّين متشدّدين.

وفي لغة الزمن الراهن ومفاهيمه السائدة، يمكن تشبيه تلك الحسبة بمجمع لوزارتي الداخلية والعدل متداخلتَيْن ومُندمجتَيْن، إذ عمل كجهاز للرقابة على سلوك الناس ورصد مدى التزامهم بقوانين التنظيم وتعميماته وتعليماته، كما تفعل وزارة الداخلية وأجهزة الشرطة المرتبِطة بها. ثمّ ضمّت الحسبة ديوان الأحكام من قضاة الحسبة ومحقّقيها، الذين تولوا مَهامّاً توكل في زمننا الحالي إلى وزارات العدل.

راقبت الحسبة الناس بفئاتهم الاجتماعية والجنسية والجندرية والعمرية كلها، سلوكهم وعلاقاتهم وكلامهم ومعتقداتهم وشعائرهم ومظاهرهم وملبسهم، والسلع التي يتداولونها ويستهلكونها، فأوقف عناصرُ جهازِ رقابتها مُخالفي شرع التنظيم، واقتادهم إلى سجونه ومحاكمه، فاستجوبهم محققِّوه وقضاته الذين أصدروا عليهم الأحكام، وفق ما ينصّ عليه كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة”.

تُبَين وثائق الحسبة التي جمعها “متحف سجون داعش” أنّ التنظيم أخذ على محمل الجد اعتقادَه بأنه يؤسِّس خلافة ودولة إسلاميّتيْن. لذا اعتمدت حسبته مبدأ تدوين ما تقوم به أجهزتها من أعمال وأفعال في محاكمها وسجونها، وسجلته في ملفات صوتية، وأحيانًا صوّرته.

تمكّن فريقنا من جمع عدد كبير من تلك الوثائق، فبوَّبها وحلّلها، كما أنّه سجّل شهادات سجناء وسجينات سابقين عند التنظيم. ثمّ أجرى المتحف تحقيقاً استقصائياً في أبواب متنوِّعة العناوين، عن أعمال حسبة “داعش”، من رقابة ومحاكمات وأحكام، وأشكال تنفيذ هذه الأحكام.

جمّع هذا التحقيق وثائقه من مدينة الرقّة السورية التي اتّخذها التنظيم عاصمة لـ “دولته”، وهو يصف أعمال الحسبة في تلك المدينة، هذه الأعمال التي تشكّل في الحقيقة نموذجًا عن أعمال الحسبة، ممارسةً وأحكاماً وتنفيذاً، في جميع المناطق التي استولى عليها “داعش” عليها وحكمها.

يقدِّم التحقيق التالي صورة بانورامية لما أراد التنظيم أن يكون عليه المُجتمع الذي أخضعه، كما يُعطي فكرة عن تسلّط أجهزته على المجتمع، ذلك لأن الحسبة هي المرآة التي تعكس تصوّر التنظيم لـ”دولته”، وتعكس طبيعة علاقته بالمجتمع.

 

 

المنهج الاستخباراتي: الوشاية المأجورة

جنّد تنظيم “الدولة الإسلامية”، في مناطق سيطرته، مُخبرين ومتعاونين لعبوا دوراً أساسيّاً في عملية ضبط المجتمع، وفرض العقيدة الإسلاموية المتشدّدة عليه. ومع أنّ سيطرته لم تدُم طويلاً، لكنّه نجح في تجنيد عدد غير قليل من هؤلاء المخبرين.

تنوّعت المخالفات التي رصدها المخبرون، وشملت تقريباً معظم وجوه أو دوائر الحياة العامة والخاصة، من الكلام واللغة، إلى الجسد في سلوكه ولباسه، إلى أشكال قصات شعر الرجال، وتحريم سفور النساء، والرقابة المشددة على لباسهن في الأماكن العامة، وعلى الفصل فيها بين الجنسين، ومنع النساء من ارتيادها إلا بصحبة “محرم” من الذكور، إلى جانب التحقّق من التزام الناس بالواجبات والفرائض الدينية، ومتابعة احتمالات مسِّهم بشؤون التنظيم الأمنية.

تشير الشهادات المسجّلة من معتقَلات ومعتقَلين سابقين في سجون التنظيم، إلى أن تهمهم والتحقيقات معهم بُنيت على تقارير وبلاغات وإخبارات سبقت اعتقالهم، قدّمها مُخبرون متعاونون.  وبناء على هذه الشهادات، يرسم هذا الباب صورة عن أولئك المخبرين والمتعاونين وطبيعة عملهم مع الحسبة، ثم يحاول تبيّن المخالفات التي تولّوا رصدها والإبلاغ عنها، وكذلك عن المناطق التي نشطوا فيها، والمكافآت التي حصلوا عليها لقاء عملهم. ثمّ يستقرئ الشكاوى التي قدمها أشخاصٌ عاديون للتنظيم في حق آخرين، ويتتبع أيضًا أشكال تصرف جهاز الحسبة، بعد تلقيه تلك البلاغات والتقارير والشكاوى.  وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكتاب المعتمد مرجعًا في عمل جهاز الحسبة (“اللائحة العامة لديوان الحسبة”)، لا يشير إلى المخبرين وعملهم، ولا إلى صرف مكافآت لهم. وهذا يعني أنه لا يُصنِّفهم ضمن هيكليّة الجهاز.

يستند هذا التحقيق حول منهج الحسبة الاستخباراتيّ، إلى 64 وثيقة مختلفة حصلنا عليها، تتنوع بين الصور والمستندات والتسجيلات الصوتية، موزّعة بحسب الفئة على الشكل التالي:

نوع الوثائق عددها
 استمارات مخبرين ومتعاونين (استمارات رصد) 7
أوامر صرف مالي 1
إيصال صرف مبلغ مالي 1
بلاغات أو إخبارات من مخبرين 9
شكوى وتبليغات من الناس 38
جدول 1: وثائق الرصد والإخبارات في جهاز الحسبة

 

 

المخبرون والمتعاونون

يبلغ عدد الوثائق المتوفرة عن مُخبري جهاز الحسبة في مدينة الرقة سبع وثائق يعود تاريخها إلى العام 2016، وفيها وُصِف المخبرون بـ “الرصّاد”، إذ خُصِّصت استمارة لكلّ منهم عنوانها “بيانات الراصد”، تحتوي على المعلومات التالية: “الاسم الثلاثي، اللقب، تاريخ ومحل الولادة، اسم الأم، العشيرة، الحالة الاجتماعية، الأبناء، العمل الحالي، مكان العمل، العمل السابق، العنوان، الهاتف، ومنطقة الرّصد”.

إنّ الرّصاد، بحسب الوثائق السبع، هم من مدينة الرقة. ستة منهم ولدوا في تسعينات القرن الماضي، وواحد من مواليد العام 1981. أما عن حالتهم الاجتماعيّة، فإنّ خمسة منهم عازبون واثنين متزوجان. أمّا عن أعمالهم فقد ذُكِر أنّ أحدهم كان عاملاً إدارياً في البلدية، والثاني تاجر طحين، والثالث حمّال، فيما الثلاثة الباقون عاطلون عن العمل.

مهنة الرصّاد عددهم
عاطل عن العمل 3
تاجر طحين 1
حمال 1
حداد 1
عامل في البلدية 1
الجدول 2: المهن الأساسية للرصّاد

 

تشير هذه المعلومات إلى أن مخبري “الحسبة”، بعد النظر في هذه العينة، هم عموماً من فئة الشبان والعازبين، وممّن يمارسون مهناً أو أعمالاً بسيطة ووضع معيشي مُتَدَنٍّ.

أما المناطق والأحياء التي مارس المخبرون أعمال الرصد فيها، فتوزّعت على النحو التالي:

  • أربعة مخبرين في حي الرميلة.
  • مخبر واحد في حارات العنّو.
  • مخبر في المشلب.
  • مخبر في الرقة المدينة.

وقد حصل فريق “متحف سجون داعش” أيضاً على وثائق، هي كناية عن تسعة أوامر صرف ماليّ مخصّصة لمتعاونين مع جهاز الحسبة، إضافة إلى صورة عن وصل استلام مبلغ مصروف، وهذا يشير إلى حرص التنظيم على توثيق عمليات صرف المال وقبضه، وإلى أحد المظاهر التي تضفي على حضوره ونشاطه صفة رسميّة، وهو ما كان يحرص عليه بشدّة.

ويبدو من أوامر الصرف التسعة أنّ المبالغ المصروفة لكل من المتعاونين تراوحت ما بين ألف وثمانية آلاف ليرة سورية. أما المخبرون فحصل كل منهم على مبلغ محدد يبدو أنه مرتب شهري بقيمة خمسة آلاف ليرة سورية. (1000 ليرة سورية = 2 دولار أمريكي تقريباً عام 2016).

و توزّعت القضايا التي أخبر عنها الرصّاد جهاز الحسبة على الشكل التالي:

  • إخباران عن منازل دعارة.
  • ستة إخبارات عن تجار ومهربي التبغ (دخان).
  • إخبار عن مُهرّب يساعد الناس في الخروج أو الفرار من مناطق سيطرة التنظيم.

وقد بلغ مجموع المكافآت المصروفة لهؤلاء الرصاد 35 ألف ليرة سوريّة، بموجب أوامر صرف صدرت في خلال العام 2016.

كيف يعمل المخبرون؟

ورد في إحدى الوثائق أن المدعو “أبو المعتصم” قدّم بلاغًا إلى الحسبة عن مجموعة تجّار ومهرّبي تبغ (دخان) وأقراص مخدِّرة، فذكر في بلاغه أسماءهم كاملة، وأسماء التجّار الذين يتعاونون معهم لتصريف بضاعتهم، وكذلك أنواع السيارات التي يجلبون بها البضاعة من مدينة الحسكة في شمال شرق سوريا، إلى الرقة، مع أوصافها الدقيقة.

ولا يكتفي “أبو المعتصم” بتقريره المكتوب، بل يرفقه بتقارير شفهية أو صوتية سجّلها في الخفاء عمّن يتحدَّث معهم، وتصل مدة تسجيلات “أبو المعتصم” إلى ساعة و50 دقيقة، مقسّمة على ثلاثة مقاطع صوتية للقائه تجاراً ومهربين، بدا في خلالها أنه صديقهم وأنّه يتردد دوريًا إلى متاجرهم فيمازحهم ويتبادلون أثناء المزاح كلمات وعبارات نابية، لم يكن التنظيم يسمح بالتلفُّظ بها.

شملت مهام مخبري جهاز الحسبة مراقبة مَنْ يعتنقون أو يتبعون بعض المعتقدات والطرق الدينية التي يحاربها التنظيم أو يكفر أصحابها، ومنها الطرق الصوفية. وبين الوثائق بلاغٌ يقدّمه أحد عناصر التنظيم (“أبو إبراهيم السفراني”) إلى جهاز الحسبة عن شخص يتَّهمه بنشر تعاليم صوفية.

إضافة إلى البلاغات المكتوبة والتسجيلات الصوتية، اعتمد المخبرون التصوير أحيانًا، في ما يتعلق بأعمال السحر والرقى والتعاويذ، وفي الإخبار عن علب السجائر المهربة، وهناك أيضًا صور لقطات شاشة من هواتف خلوية تحوي رسائل نصّية تم تبادلها عبر تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، بين نساء ورجال في الغالب.

والجدير بالذكر أنّ المخبرين ما كانوا ملزمين بتقديم هذه الأدلة أو القرائن في بلاغاتهم، بل كان يكفي أن يقدم أحدهم بلاغه عن شخص ما إلى قسم التحرّيات في جهاز الحسبة، حتى يُصدر القسم توجيهاته بالتحرّي عن الشخص واعتقاله إذا لزم الأمر.

وتوضح الوثائق أن مهمة المخبرين الأساسية، كانت مراقبة سلوك الناس في الأمور التي تقع ضمن اختصاص جهاز الحسبة مثل تجارة التبغ واختلاط الجنسين في الأسواق أو الأماكن العامة والعلاقات بين الرجال والنساء والالتزام بالقواعد التي فرضها التنظيم في أمور اللباس وحلاقة الشعر وأداء الفرائض الدينية من صلاة وصيام. كما كان يمكن تكليفهم بمهام أوسع من ذلك، على سبيل المثال توضح إحدى الوثائق تكليف جهاز الحسبة ثلاثة من مُخبريه لمراقبة سلوك الناس وأحاديثهم في جامع الرحمن في حيّ الرميلة ومحيطه.

وفي شهادات بعض المعتقلين السابقين التي صورها فريق عمل المتحف، أو في الوثائق المكتوبة التي تحوي وقائع تحقيقات مع سجناء، يظهر أن بعض المخبرين كانوا يرتبطون بعدد من أجهزته، إضافة إلى ارتباطهم بجهاز الحسبة، ومنهم مخبرو ديوان الأمن العام، المختص بالشؤون الأمنية. وبناءً على ذلك يمكّن القول إن تنوّع تسميات الأجهزة وتداخل مهام المخبرين في التنظيم، يُذكّر بالأجهزة الأمنية المتنوِّعة الاختصاصات والتسميات في النظام السوري ونظام صدام حسين في العراق.

بلاغات وشكاوى

لم تقتصر البلاغات والإخبارات التي كان يتلقاها جهاز الحسبة على المخبرين والمتعاونين. فقد حصل فريق “متحف سجون داعش” على 38 وثيقة عن بلاغات يمكن القول إنها “تطوّعية” أو تندرج في إطار الشكاوى، منها 26 بلاغاً قدمه عناصر من التنظيم بحقّ عناصر آخرين، وباقي البلاغات قدّمها أشخاص من الرقة بحق بعض أهالي المدينة.

وقد أشارت هذه البلاغات إلى أنواع من المخالفات مثل التحرش والمعاكسة الهاتفية والاختلاط بين الرجال والنساء والعلاقات العاطفية والتدخين وبيع التبغ والحبوب المخدرة وغيرها. ومن الواضح أن قسم التحري كان يتعامل معها تعاملًا جديًا، فعناصر القسم كانوا يُذيِّلونَ كل بلاغ بطلب بحث وتحرٍّ عن الشخص الوارد اسمه ونوع مخالفته في البلاغ، علماً أنّ بعض البلاغات انطوت على مشاكل عائلية.

على سبيل المثال، ورد في تبليغ قدّمه فتىً قاصر شكوى ضد والده وأعمامه لأنهم يلعبون “ورق الشدّة” في المنزل، وعلى هذا الأساس ألقى التنظيم القبض عليهم ووجّه إليهم تهمة لعب القمار مع أنّه لم يتوفَّر دليل ملموس على ذلك. كما تضمن أحد البلاغات شكوى من رجل ضدّ ابنه الذي يسيء معاملته ويعتدي عليه وعلى والدته بالضرب والشتائم.

وفي بلاغ آخر يدعي أحد عناصر التنظيم أن فتاة، “سبية” عنده، تمارس أعمال السحر في المنزل، ما تسبب له بمشاكل مع زوجته، بينما قدم أحد العناصر بلاغاً بحق عناصر آخرين، مبنياً على وشاية من زوجته ومعلومات حصلت عليها في خلال أحاديث دارت بينها وبين زوجات العناصر المُبَلَّغ عنهم.

لا تتضمّن وثائق الحسبة المتوفرة لدينا ما يشير إلى وجود مخبرات أو “راصدات” أو متعاونات مع التنظيم، لكن هناك نساء تقدَّمْن بشكاوى وقدمن معلومات عن أشخاص آخرين في قضايا مختلفة تخصّهن. على سبيل المثال، توضح إحدى الوثائق بلاغاً قدمته امرأة عن ابنتها التي سافرت خارج سوريا، مؤكدة أن الابنة كانت على علاقة برجُلين في وقت سابق، وبنتيجة ذلك قُبض على الرجلين بتهمة “الزنا”، وحُكم على أحدهما بالجَلد، وأُجبر على نقل محلّه من مكانه في السوق إلى مكان آخر. وتشير وثيقتان إلى اتهام امرأتين لنساء أخريات بأعمال السحر، بينما تنطوي بعض الشكاوى على تعرض نساء للتحرش أو لمعاكسات في الطريق أو عبر الهاتف.

 

القضايا العقدية: رقابة صارمة على الكلام

فرض تنظيم الدولة الإسلامية رقابةً وضوابط صارمة على المجتمع والناس، سلوكهم وعلاقاتهم وحركاتهم وسكناتهم في مناطق سيطرته، ويمكن وصف تلك السيطرة بنوع من الشمولية التي طالت اللغةَ والكلمات، وهذا ما يرد في أحكامٍ وتعاميمَ صدرت عن جهاز حسبة التنظيم، وفي أوامره بإنزال عقوبات مشددة بكل من يخالف تلك الضوابط على اللغة والكلام.

من تلك الأحكام، على سبيل المثال، معاقبة التنظيم كل شخص يهتف: “يا محمد!” أو “يا الله!”، وهاتان عبارتان شائعتان، ويردّدهما بعض الناس في معرض تعبيرهم عن الدهشة والاستحسان كما عن الاستهجان والاستهوال، وشملت المحاسبةَ من يَحلُف، أي يتضرّع طلبًا لتصديق كلامه، بغير اسم الله واسم رسوله محمد، كما منع التنظيم تسمية المواليد بأسماء محددة، منها “تبارك” الذي يُطلق على البنات. ومن أقدم من النساء والرجال على مثل هذه المخالفات وسواها، عوقبوا بالجلد والسجن، وبلغت أحكام حسبة التنظيم على من اتهمهم بسبّ الله أو الأنبياء أو دين الإسلام، حدّ الإعدام ومصادرة الممتلكات.

يتتبع هذا التحقيق مستوى رقابة تنظيم الدولة على كلام الناس وحرية عقيدتهم، مستنداً إلى 25 وثيقة من مستندات أو أرشيف “الحسبة”، تتعلق بـ 26 متهمًا ومتهمة، صدر في حقهم 24 حكمًا. وهناك قضية واحدة لم يَرِدْ فيها حكم. كما يهدف التحقيق عبر تدقيق وتحليل هذه الوثائق إلى الكشف عن طرائق تعامل التنظيم مع ما يعدّه مخالفات لعقيدته وشرعه في ما يتعلق باللغة والكلام، وعن الأحكام التي أصدرها بحق المعتقلين/ات بتهمة مخالفتهم تلك العقيدة والشرع اللغوي والكلامي، أو الخروج عليهما، إضافة إلى الأسانيد الشرعية والمراجع التي اعتمدها في إصداره أحكامه على تلك المخالفات.

تغطي الوثائق الـ25 مدّة زمنية قاربت الستّة أشهر، وذلك من تموز/يوليو العام 2016 إلى مطلع العام 2017، وهي تشمل مدينة الرقة السوريّة فقط. ويتوزّع المتّهمون/ات الـ26 ما بين 21 رجلًا، وخمس نساء. والقضية التي لم يتوفّر فيها حكم تتعلّق بتسجيلين صوتيّين، مدّتهما نصف ساعة تقريباً، لتحقيق مع مُتَّهم بـ”ادعاء النبوة”.

القضايا العقديّة

أدرج التنظيم أحكامه بحق المعتقلين/ات الـ24 في خانة ما سماه “القضايا العَقدِيَّة”، أي ما يتعلّق بالعقيدة، وشملت هذه القضايا نطقَ المتهمين/ات بـ”ألفاظ كفرية، (الكفر، سبّ الدين، سبّ الله، الاستهزاء بالله أو الدين، الردّة)، بحسب ما ورد في وثائق الاتهام والأحكام الصادرة عن جلسات التحقيق.

مِنْ هذه الوثائق تسجيل صوتي لجلسة تحقيق مع أحد المتهمين، وشهادة مصوّرة لمعتقلة سابقة في سجون التنظيم، اتُّهِمت بالنطق بـ”ألفاظٍ كفرية”. وقد روت هذه الشاهدة وقائع اعتقالها ومشاهداتها داخل السجن، إضافة إلى تفاصيل التحقيق معها والحكم عليها وكيفية تنفيذه. كما شملت إحدى القضايا رجلًا وزوجته، بعد إلقاء القبض عليهما، بسبب عثور عناصر الحسبة على أدعية وآيات قرآنية في جيب الزوج، فاعتبروها كلام تعاويذ وسحر أو شعوذة.

 

خُصِّصَ الفصل الأول من الباب السادس في كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة” لما سمي بالقضايا “العَقدِيَّة” (العقيدة) التي يتوجب تحويل أي شخص يُتَّهم بمخالفتها إلى “المحكمة الشرعية التابعة لديوان القضاء والمظالم”. ولا يخوّل الكتاب القاضي الشرعي الموجود في الحسبة بالمحاكمة في هذه القضايا، لذا فإن الأحكام المنطوقة في هذا الباب صدرت كلها، ما عدا واحدة منها، عن المحكمة الشرعية التابعة لديوان الحسبة.

يتناول الفصل الأول من الكتاب أربع تهم “سبّ الله تعالى أو سب النبي أو الدين، الحلف بغير الله، السحر والشعوذة، أهل البدع والعقائد المنحرفة”. ولأن التهمتين الأخيرتين خُصص لهما باب مستقل ضمن الكتاب، يكتفي هذا الباب بعرض الوثائق المتعلقة بأمور التكفير بسبب التفوه بعبارات منعها التنظيم وحرّمها، أو النطق بعبارات يعتبرها غير لائقة.

يحدّد كتاب “اللائحة العامة” آلية التعامل مع من يشتم الله أو الدين أو الرسول، بما يلي: “في حالة التقدم بشكوى ضدّه توثق الشكوى بدقّة، فيُثبَت التاريخ والمكان والوقت، وما تلفّظ به حرفيًا، إضافة إلى الشهود وعناوينهم وعدالة شهادتهم في القضية”، أما في حال قبض عناصر الحسبة مباشرة على الشخص المتهم، فـ “يُدَوَّن ما تلفَّظَ به (المتهم) بدقّة، والطريقة التي سَمع فيها العناصر القول، إضافة إلى حالة المدعى عليه العقلية أثناء ارتكابه لفعله”. وفي هذه الحال يحدِّد الكتاب العقوبة مباشرة بالإحالة إلى المحكمة الشرعية، بعد إجراء التحقيقات المطلوبة.

 

التغريم أو الجلد… وحتى القتل

لا يخوَّل شرعيو الحسبة بالحكم في القضايا العقدية، إذ إنّ كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة” صنّفَها كقضايا مهمة تُحال مباشرة إلى المحكمة الشرعية التابعة له، كما يفسر لماذا صدرت الأحكام عن “ديوان القضاء والمظالم”، ما عدا واحدة فقط صدر الحكم فيها من القاضي الشرعي في ديوان الحسبة، أبو حمزة التونسي.

بحسب تحليل الوثائق المتوفرة عندنا، نلاحظ أن أغلب القضايا انتهت بإخلاء سبيل المُتَّهمين، فيما تعرَّض ثلاثة مِمَّن أثبتت عليهم تُهَم مصنَّفة ضمن القضايا العقدية للجلد، وأُعْدِم أحدهم.

الحكم عدد القضايا
لا حكم فيها 1
البراءة 1
إخلاء سبيل 10
بمتابعة دورة شرعية، ودورة شرعية مغلقة (في السجن) 9
70 جلدة 2
50 جلدة 1
إعدام 1
جدول رقم 1: الأحكام التي صدرت في حقّ المُتَّهمين في القضايا العقدية.

يلاحظ في وثائق ومستندات أحكام إخلاء السبيل والدورات الشرعية، استعانة قضاة التنظيم بالآية 25 من سورة الفرقان: “إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا”.

وكان القضاة في جميع القضايا يتبعون “ديوان القضاء والمظالم”، باستثناء أبو حذيفة التونسي الذي كان القاضي الشرعي في ديوان الحسبة، ومن غير الواضح سبب تكليف أبو حذيفة بالحكم في قضية من المعهود إحالة مثلها إلى المحكمة الشرعية التابعة لـ “ديوان القضاء والمظالم”.

اسم القاضي عدد القضايا
أبو مسلم الجزراوي 5
أبو معن النجدي 11
أبو الفاروق المهاجر 7
أبو حذيفة التونسي 1 وهو الحكم الوحيد الصادر عن قاضٍ في الحسبة
جدول رقم 2: القضاة وعدد القضايا التي تولّى كل منهم الحكم فيها

حكم بالقتل

في الدعوى الرقم 13850، بتاريخ 21 تموز/يوليو العام 2016 (يحتفظ متحف سجون داعش بنسخة منها) حكم قاضي الحدود والجنايات أبو مسلم الجزراوي بالقتل على متهم يدعى “ماجد” بتهمة الكفر، ونكتفي بذكر الاسم الأول للمتهم لعدم التأكّد مِمّا إذا كان التنظيم قد نفّذ الحكم به أم لا.

اعترف ماجد أمام القاضي أنه شتم أمه وأخته في شجاره معهما، وأنّه سبّ الله، كما أقرّ بأنه كان في حالة “يأس من الدنيا”. وبناءً على اعترافاته هذه، حكم القاضي على ماجد، كما نرى في نصّ الحكم: “بالقتل ومصادرة جميع أملاكه لبيت مال المسلمين بتهة الردّة وعدم قبول توبته في أحكام الدنيا”. والسند الشرعي للقاضي في حكمه هو الآية القرآنية: “قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم“.

واستعان القاضي بما أورده بمصادر عدَّة:

  • عن ابن تيميّة: “قال ابن تيمية قال أصحابنا وغيرهم: من سبّ الله كفر سواء كان مازحًا أو جادًا لهذه الآية وهذا هو الصواب المقطوع به. الصارم المسلول 1/513”.
  • عن الإمام ابن راهويه: “أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام أو دفع شيئًا مما أنزل الله أو قتل نبيًا من أنبياء الله أنه كافر وإن كان مقرًا بما أنزل الله”.
  • عن القاضي أبو يعلى في المعتمد: “من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحلّه أو لم يستحلّه”.

وتشير الوثيقة إلى آلية تنفيذ الحكم على النحو التالي: “يقتل بضرب عنقه بالسيف حتى الموت في مكان عام”. 

وعلى الرغم من عدم وجود دلائل قطعية على تنفيذ الحكم بالمتهم ماجد، من المرجح أن الحكم نُفِّذ. فوثيقة الحكم احتوت على ختم ومصادقة “نائب أمير ديوان المظالم” في تنظيم “داعش” المدعو “أبو العباس الجزراوي”. وصادق على حكمه “القاضي أبو مسلم الجزراوي”. والأرجح أن المصادقة كانت الخطوة الأخيرة قبل تنفيذ الحكم في المتهم.

 

قضايا متعلقة بالنساء

بين الوثائق ما يشتمل على قضايا متعلّقة بخمس نساء اتّهمهنّ التنظيم بالكفر والاستهزاء بالله، أو بشتم الله والدين، ولا تختلف أوضاع النساء عن أوضاع الرجال، إذ نالت المتّهمات الخمس أحكامًا تراوحت بين السجن والجلد والخضوع لدورة شرعيّة.

في نصوص الأحكام التي بين أيدينا ملخَّصٌ عن كل قضية، لكنه خالٍ من أية تفاصيل تساعد على معرفة أحوال المعتقلات، ووقائع التحقيق معهن وما أدليْنَ به من أقوال، وظروف سجنهن.

نالت إحدى النساء حكمًا بالبراءة من التهم الموجهة إليها، لعدم ثقة القاضي بالتفاصيل التي أوردتها الحسبة في ملف الدعوى، ويبدو أن لحظة اعتقال المرأة شهدت عملية دهم وإطلاق نار، كما يتبيّن في صورة وثيقة الحكم. وهذا ما دفع القاضي إلى تبرئة المرأة.

وأخلى القاضي سبيل امرأة أخرى، اعتقلت مع زوجها الذي وُجدت في جيبه أوراق دُوّنت عليها كتابات، لكن المرأة هذه أكدت أمام القاضي أنها لا تقرأ ولا تكتب، ولا تعرف ما المكتوب في الأوراق. وأكد قرار الحكم أن العبارات لم تكن سوى كلمة “الله” مكررة، إضافة إلى آيات قرآنية.

في قضية أخرى، اكتفى القاضي بالحكم بالسجن على امرأة ثالثة، لكنه أخلى سبيلها بعد إعلانها “التوبة”، كما ألزم مُتَّهَمة رابعة بالخضوع لدورة شرعية.

أما أقسى عقوبة تعرضت لها امرأة، فكانت الجلد 70 جلدة، علمًا أن نصّ الحكم عليها لا يثبت سوى أنها لم تقل أكثر من عبارة: “إذا لم آتِ من العمل فإذاً هذا من الله”.

وفي الشهادة المصورة أكّدت المرأة التي اتُهمت بالنطق بـ “ألفاظٍ كفرية”، أنها عوقبت بـ 200 جلدة، بعد اعتقالها مدَّة عشرة أيام.

قضية مدّعي النبوة

في كانون الأول العام 2016، اعتقل عناصر الحسبة شاباً يتحدَّر من مدينة حمص بتهمة ادعائه النبوّة، بحسب ما ورد في وثائق القضية. وفي التسجيل الصوتي الأول للتحقيق مع المتهم، يروي أنه كان يصلّي العشاء في جامع عُبّاد الرحمن بمدينة الرقّة التي نزح إليها بسبب الأوضاع الأمنية السيئة في مدينته، وبعد انتهائه شعر بالدوار، ثم رأى القمر ينشقُّ، وسمع صوتًا يهتف به: “وما على الرسول إلا البلاغ”، فبدأ يُردّدُ قائلًا للناس المحيطين به: “أنا نبي الله”.

في جلسة التحقيق الثانية، بعد أسبوع من التحقيق الأول، كرّر روايته نفسها عن الحادثة، كما يُسَمَع في التسجيل، لكن المُحقق شدّد على جانب آخر وهو اتّهامه بتعاطي المخدرات. وكان المتهم قد ذكر في التحقيق الأوّل معه أنه تعاطى المخدرات في السابق وتوقف عن ذلك بعد قدومه للرقة.

وقد ركّز جانبٌ كبير من التحقيق معه على نوع الحبوب التي كان يتعاطاها، كما على أسماء صيدليات في الرقة كان يمكنه الحصول منها على الحبوب المهدئة. أما المُتَّهم فقد شدد على أنّ الحبوب المخدرة أثرت عليه، وما حدث معه في المسجد كان خارجًا عن سيطرته.

ويحوي ملف القضية إفادة مكتوبة من أحد الأطباء لصالح المتهم، يؤكد فيها أن الرجل كان يتعاطى سابقًا حبوبًا مخدِّرة، “والآن قد تاب، لكن حالته النفسية بعد انفصاله عن زوجته، ربما أثّرت عليه، فعاد إلى تعاطي حبوب الهلوسة”، مطالباً عناصر الحسبة أن يأخذوا في الحسبان وضع المتهم العقليّ والنفسيّ.

لم يرِد في هذه القضية حكمٌ واضح، ومن المرجح أن السجين أُخليَ سبيلُه، بعد إخضاعه لدورة شرعية، أو معاقبته بالسجن والجلد، لأن تهمة شتم أو سب الدين لم تثبت عليه، كما أقر في اعترافاته أن حالته العقلية لم تكن مُتَّزِنة، ولم يكن على دراية بما كان يقوله أو يقصده.

 

عداء الخصوم: أهل التصوّف والمعتقدات الشعبية

حارب التنظيم المظاهر والشعائر الدينية الاجتماعية المتوارَثة في تقاليد الثقافة الشعبية، تلك التي لا توافق تفسيراته المتشدّدة للدين والتديّن، ومنها الطرق الصوفيّة والمعتقدات والممارسات الشعبيّة المتَّصِلة بالأضرحة والمقامات والمزارات والتعاويذ والتمائم والرقى التي أطلق عليها صفة “السحر والشعوذة”.

يتتبع هذا التحقيق مجموعة من وثائق جهاز الحسبة، تلك المتعلقة بأهل التصوُّف وبالممارسات الشعبية المتوارثة، وبأحكامها التي بلغ بعضها حدّ الإعدام، ذلك أن التنظيم اعتبر أهل الطرق الصوفية ومشايخها من منافسيه الأساسيّين، نظرًا لما يحظون به من منزلةِ دينية واجتماعية بين الناس. وقد شملت الأحكام وعقوباتها في هذا الباب أشخاصًا لمجرّد أنهم يحملون تمائم تحوي أدعية، أو قطعة قماش من ضريح أو مزار أو تكية صوفية، وصولًا إلى تعويذة من الخرز أو الصدف.

اعتمد هذا الباب، إضافة إلى وثائق الحسبة، على شهادات ومعلومات جُمعت من بعض أهالي الرقة، ومنهم مدير أوقاف سابق مطّلع على أحوال التيارات الدينية في المدينة.

حال الجماعات الصوفية

حظيت الجماعات الصوفية ومشايخها في مجتمع مدينة الرقة وريفها، بمكانة دينية واجتماعية مميزة، وربما عزَّزها توسع مصادر دخل بعض مشايخ طرقها ويسرِهم المادي، وهو ما ضاعف من أعداد مريديهم. والصوفية في الرقة، كما في سواها من مجتمعات المدن والمناطق السورية، يعود حضورها وتعود ومكانتها إلى حقبة السلطنة العثمانية، وهي استمرت بعدها، بسبب ابتعاد مشايخها وحلقاتهم ومريديهم عن الانغماس في الحياة السياسية والحزبية المحدثة وفي الصراعات على السلطة، ولانصرافهم إلى تكاياهم وحلقاتهم وشعائرهم الدينية انصرافًا واسعًا.

أما الطرق المنتشرة في مدينة الرقة، فهي: الرفاعية والقادِرية والنقشبندية والخزنوية. وقد عرف النظام السوري كيف يستغل أو يستثمر انصراف الجماعات الصوفية المزمن عن السياسة وشؤونها، فأنشأ مع مشايخها علاقات ليأمن جانبها ويحصل على ولائها أو سكوتها أثناء مواجهته المسلحة والدموية مع تنظيم جماعة الإخوان المسلمين ما بين العامين 1979 و1982، وبعد صعود التيارات الإسلامية السلفية.

لكن هذا ما كان ليصرف النظام الأمني السوري وأجهزته الكثيرة عن مراقبة نشاط حركات التصوف ومشايخها، وكان يكفي أن يشك جهاز أمني ما في نشاط أحد المشايخ، حتى ينزل به العقاب. كمثل عقاب بعض المشايخ في أثناء حرب العراق بدءًا من العام 2003، بنقلهم أو حرمانهم من وظائف كانوا يشغلونها، أو التضييق على أتباع الطريقة الخزنوية في أواخر التسعينات، ربما لارتباطاتها بالأوساط الكردية.

هدم قبور الأولياء

ما إن أحكم تنظيم “الدولة الإسلامية” سيطرته على مدينة الرقة مطلع العام 2014، حتى أعلن حربه على الصوفية وسواها من ثقافة الموروث الشعبي. في البداية بدأ بنسف قبور الأولياء والأضرحة التي يزورها الناس للتبرّك بها. وإلى أضرحة مشايخ الصوفية، طالت عمليات التفجير أضرحة الصحابة عمار بن ياسر ووابصة بن معبد الأسدي وأويس القرني. وكان التنظيم شديد الوضوح في وجوب هدم القبور والأضرحة ومزارات الأولياء، وقد خصَّص لذلك الفصل الثالث من الباب السادس في كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة” لتحديد كيفية التعامل معها: “هدمها دون تأخير، والاستعانة بسريّة تفخيخٍ لنسفها”. وهو منع أي بناء فوق القبور، أو نصب شواهد رخامية عليها، بصرف النظر عن هوية المتوفين.

وكل قبر أو ضريح قائم داخل مسجد، شدّد التنظيم على نبشه ودفن رفات صاحبه في المقبرة. هذا إذا كان بناء المسجد أسبق زمنًا على وجود القبر فيه. إمّا في حال بُنِي المسجد بعد إقامة القبر فيه، فيُنْسَفُ القبر والمسجد معًا. وفي المناطق السورية التي سيطر عليها التنظيم، شنَّ مجندوه حملة شعواء عمادها سخريتهم من المعتقدات الصوفية والممارسات الدينيّة الشعبية الأخرى، وهزؤهم بها، واصفين أتباعها ومتّبعي شعائرها وطقوسها بـ”القبوريّين”. وهم يقصدون بهذه التسمية أن زوّار قبور الأولياء، إنما هم أتباع القبور أو عبدتها. وهذا بحسبهم ضرب من الشرك والكفر يستوجب العقاب.

 في هذه الوثيقة الصادرة عن ديوان الحسبة والموجهة إلى “أمراء مراكز الحسبة
في الولايات، يوصي الديوان بإزالة القبور التي يعتبرها مخالفة (أرشيف متحف سجون داعش)

قتل وملاحقات وهجرة

عند الحديث عن الصوفية في الرقة، لا بدّ من تتبّع سيرة الشيخ محمد توفيق عجّان الحديد، أحد أشهر مشايخها. وهو يتحدّر من عائلة حملت لقب “عجّان الحديد” الذي يشير إلى أفعال أصحاب الكرامات الخارقة. ففي الرواية العائلية الشائعة عن جدّها المؤسّس أنه كان من أصحاب هذه الخوارق، بحسب المرويات الشعبية. أما الشيخ محمد توفيق فانتظم في الطرق الصوفية منذ مطلع ستينات القرن العشرين، بعد مدة قضاها متنقلًا بين مهن يدوية مختلفة. وتتلمذ على بعض المشايخ إلى أن شغل منصب مفتي الرقة بين العامَيْن 1970 و 1982.

حاز الشيخ محمد مكانة مهمة بين مشايخ الصوفية، وفي مجتمع الرقة عمومًا. وعلى الرغم من تراجع مريدي جماعات التصوف الشعبي وجمهوره وطقوسه، مع توسّع التعليم وانتشاره، وانضمام الشبان إلى الأحزاب العلمانية، ظلت المنافسة والخلافات الأقوى قائمة بين التيار السلفي والصوفية في الأوساط الأهلية التقليدية. فالسلفيّون اعتبروا الصوفيّة من البدع، وقام صراع دائم بين الجماعتين. لكن هذه العوامل كلها لم تلغِ حضور الطقوس والشعائر الصوفية في الحياة والأعراف الاجتماعية. فلا ينتهي عزاء بلا إقامة مولد، وليس من مناسبة اجتماعية إلا ويُدعى مشايخ لحضورها.

ضيّق تنظيم “الدولة الإسلامية” على أتباع الطرق الصوفية وحاصرهم، ثم أمطرهم بتهديداته وشرع في مصادرة أموالهم، واعتقل كثيرين منهم. وبلغت ذروة محاصرته لهم اعتقاله الشيخ محمد توفيق عجان الحديد، ومصادرة أمواله وممتلكاته من بيوت وعقارات ومحالّ تجارية، ثمّ إعدامه في كانون الأول/ ديسمبر العام 2014، على الرغم من تجاوزه التسعين من عمره.

وقد لقي الشيخ والمنشد محمد المغط، المعروف بين أهالي الرقة بصوته وإنشاده المدائح الدينية، المصير عينه. والأرجح أنه قضى تحت التعذيب. ولم يسلم التنظيم جثمانه إلى عائلته بل اكتفى بالسماح لأفراد منها بإلقاء النظرة الأخيرة عليه في براد المشفى الوطني بالرقة، ومنعها من إقامة عزاء له، مدّعيًا أنه توفّيَ نتيجة تضخم في عضلة القلب وتوقّفها عن العمل[1].

ونتيجة هذه السياسة تجاه تيّار الصوفية، هاجر كثر من مشايخه، فانتقل معظمهم للإقامة في تركيا، ونصحوا أتباعهم ومريديهم بالخروج من الرقة. فأحكام التنظيم كانت شديدة القسوة عليهم، إذ عدّهم من “أهل البدع والعقائد المنحرفة”. وهؤلاء يستحقّون العقاب ومحاربة أفكارهم.

يشير الفصل 22 من الباب السادس في كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة” إلى ضرورة مصادرة كتب الصوفية من المكتبات وإتلافها. وتكرار ذكر الصوفية في مواضع عدة من الكتاب يؤكد أن “داعش” أقام الحرب عليها وعلى أتباعها. فالصوفية منافسٌ لدود لسلفيته المتشددة على أرض واحدة وفي ميدان واحد: الاجتماع الديني. ويُضاف إلى ذلك خلافه العميق مع معتقداتها.

 

وثائق “السحر والشعوذة”

سمّى جهاز حسبة التنظيم الوثائق المدرجة في هذا الباب، مسائل “السحر والشعوذة والعقائد المُنْحرفة”، وقد جمعنا 16 وثيقة لقضايا مِن اختصاص جهاز الحسبة، بأسماء أشخاص مُتَّهمين بالسحر والشعوذة.

اشتملَت هذه الوثائق على خمسة بلاغات تحوي معلومات قدّمها أشخاص، معظمهم من عناصر التنظيم، ضد آخرين يتَّهِمونهم بممارسة السحر، وملف يحتوي 89 صورة عن أوراق دُوّنت عليها طلاسم، أو عبارات دينية، أو تعاويذ، وأدوات تُستَعمل عادة في أعمال السحر (أصداف، خرز، أسنان حيوانات، وغيرها)، إضافة إلى استمارات تحوي معلومات شخصية عن موقوفين وبلاغات مكتوبة ومحاضر ضبط ومحاضر التحقيق معهم.

كما تضمّنت الوثائق تسعة تسجيلات صوتيّة، مدّتها ساعة و40 دقيقة. منها أربعة تسجيلات تتضمّن بلاغات قدمها أيضًا عناصر في التنظيم، ضدّ أشخاص يتهمونهم بممارسة السحر والشعوذة. أما التسجيلات الخمسة الأخرى فهي عبارة عن مقاطع من جلسات تحقيق مع متَّهمين. وتتراوح مدّة التسجيل الواحد ما بين ثلاث دقائق و 25 دقيقة، وبعضها تسجيل لجلسة تحقيق كاملة، وأخرى يبدو أنها جزء من جلسة تحقيق. وهناك تسجيلان اثنان من البلاغات المذكورة أعلاه.

تشير الوثائق إلى أحكام واضحة في أربعِ قضايا: اثنتان منها في حقّ رجال، واثنتان في حقّ نساء يبدو أنّهما شقيقتان.

التهم والبلاغات

يُخصّص الفصل الأول من الباب السادس، الفقرة (ب)، من كتاب “اللائحة العامة”، لقضايا السحر والشعوذة. وهي تندرج ضمن القضايا العقدية، التي تتضمن مسائل مثل شتم الله أو الرسول أو الدين، أو الحلفان بغير الله، أو ممارسات ومعتقدات دينية لا تتوافق مع تفسير التنظيم للدين، مثل الصوفيّة والتشيّع.

يوصي الكتاب جهاز الحسبة بضبط ممارسة أعمال السحر وترويجها، وتوقيف ممارسيها ومروِّجيها، ومصادرة ما يحملونه من أشياء تتعلق بها، سواء عُثر عليها بحوزتهم أو في بيوتهم. أما باب العقوبات في هذا الفصل من الكتاب، فيوصي بإحالة المتهم بقضايا السحر، أو بممارسات ومعتقدات يسميها “منحرفة”، إلى “المحكمة العامة التابعة لديوان القضاء والمظالم”. وهذا يوضح أن جهاز الحسبة لم يكن مخوّلاً تنفيذ أية عقوبة بحق المتهمين، وأن هذه القضايا اعتبرت مهمة جدّاً.

وتبيّن الوثائق أن عناصر الحسبة مُلزَمون بتضمين ملفّ كل مُتَّهم بالوثائق الآتية:

  • صيغة التحرّي يطلق عليها التنظيم اسم “كليشة التحري”، وكلمة كليشة في العامية السورية، تدل على نموذج الاستمارة المطلوب ملؤها. تحوي وثائق “كليشة التحري” خانات ثابتة، تُدون فيها المعلومات التالية: اسم المعتقل، مكان وتاريخ الميلاد، اسم الأم، العشيرة التي ينتمي إليها، الحالة الاجتماعية، مكان العمل، العنوان، رقم الهاتف، الحالة الصحية، مرّات الاعتقال السابقة وأسبابها، الجهات التي قامت بالاعتقالات السابقة، اسم المُعْتَقِل الحالي، تاريخ الاعتقال، سبب الاعتقال، المضبوطات في حال توفرها، كالمال والأوراق والحاجيات الشخصية.

و الاستمارة المخصصة للرجال مزوّدة بخانة لصورة المتهم الشخصية. وفي وثائق المتحف المتعلقة بقضايا السحر، لم ترِد أي استمارة تحرٍّ خاصّة بالنساء.

  • محضر التحقيق: ويشمل أقوال المتهم.
  • ملفات بعض السجناء احتوت تسجيلات صوتيّة لجلسات التحقيق معهم. واحتوت ملفات أخرى على بلاغات أو معلومات، قدّمها إلى جهاز الحسبة بعض عناصره أو متعاونون معه، بلّغوا فيها عن ممارسة بعض الأشخاص أعمال السحر.

هناك بلاغات قدّمها عناصر التنظيم إلى الحسبة، يُلاحظ أنها وسواها من الوثائق لم تخلُ من مماحكات أو مشاكل شخصية. فعلى سبيل المثال قدّم أحد المُبلِّغين، المدعو “أبو خطّاب المصري”، بلاغاً عن عديله. كما قدم عنصر اسمه “أبو خالد التونسي” بلاغًا عن امرأة كانت “سبية” عنده، فاتّهمها بأنها “كتبت له ولزوجته السحر”، وذلك بعدما أعطاها لرجل آخر.

وثيقة تتضمن بلاغاً من أحد عناصر التنظيم ضد سيدة كان قد سباها
ويعتقد أنها تركت سحراً له في منزله (أرشيف متحف سجون داعش)

 

أما “أبو حفص الشامي” فبلّغ عن زوجة عنصر آخر، مدعيًا أنها “سحرت زوجته”. وفي تسجيل صوتي يقول “أبو همام الحلبي” للمحقّق في تسجيل صوتي إن معلومات توفرت لأحد عناصر التنظيم، المدعو “أبو شامان”، عن أحد ممارسي السحر، وهو تمكن من الحصول عليها أثناء تنفيذه عمليّة رصد في الحيّ. ويفيد التسجيل الصوتيّ المحفوظ في أرشيف “متحف سجون داعش” أن الرصد المكلف به “أبو شامان” لا يتعلّق بقضية سحر مباشرة، بل بمسألة أخرى.

 

التحقيق والقضاء والأحكام

تكشف الوثائق والتسجيلات أنّ التنظيم كان يأخذ البلاغات والمعلومات الواردة إليه، في ما يتعلق بالممارسات الصوفية والموالد والسحر، على محمل الجدّ. فيأمر عناصره بالتحرّي عن ممارسيها، على ما ورد في البلاغات المكتوبة.

وتبيّن تسجيلات التحقيقات مع متهمين بالسحر، أن هؤلاء المعتقلين يتكلَّمون مجيبين عن أسئلة المحقّقين، من دون أن يتعرَّضوا للتعذيب. وهذا لا ينفي هيبة أو سطوة المحقّق على المتهمين، ما يولِّد خوفهم منه. وما يُثبت ذلك هو عبارات الولاء التي كرَّرها بعض المعتقلين أثناء التحقيق معهم خوفًا من العقوبة المُرتَقَبة.

أما المحقِّقان اللذان يتكرر سماع صوتيهما في معظم التسجيلات، فهما “أبو سيف مقص” و”أبو حذيفة السلفي”، وهما من أبناء الرقّة، كما يتبيَّن من لهجتهما وطريقة مخاطبتهما بعض المعتقلين، إضافة إلى معرفتهما بمَنْ يحقّقان معهم وبعائلاتهم وبأماكن سكن وعمل بعضهم، إضافة إلى صلات القربى التي تجمع بينهم.

التسجيل الوحيد الذي يُسمع فيه صوت محقِّق من خارج محافظة الرقّة، هو لـ”أبو أحمد الحمصي”، كما يتبيّن من لهجته، وربما يكون من حمص بحسب ما توحي به كنيته.

الأحكام

هناك أربع قضايا صدر فيها حكم واضح، ولم نجد أحكاماً مؤكَّدة في القضايا الأخرى. وقد تراوحت الأحكام ما بين إخلاء السبيل وفرض متابعة دورة شرعيّة.

في قضيتين تتعلّقان باثنين من الرجال، أخلى جهاز الحسبة سبيل الموقوفَيْن فيهما، ولم يعرضهما على “المحكمة العامة” في الرقّة لعدم كفاية الأدّلة التي تثبت ممارسة أحدهما أعمال السحر، بينما يقول الرجل الآخر إنه لم يمارس أية أعمال سحر. وعن الورقة التي عُثر عليها معه، والمدونة عليها أسماء نساء، قال إنها كُتبت على أمل أن تجعله محبوباً فيستطيع الزواج بإحداهن. وهذا ما يُعرف في البيئات الشعبية بـ”سحر المحبة”.

وفي قضية أختين متّهمتَيْن بممارسة السحر، حوكِمتا أمام القاضي “أبو الفاروق المهاجر”، قاضي الجنايات والحدود في “المحكمة العامة” بالرقة، التابعة لـ “ديوان القضاء والمظالم”، يكتفي القاضي بمدة حبسهما ويخلي سبيلهما، لأنهما أظهرتا أمامه التوبة عمّا فعلتاه.

وقد استند القاضي هنا في حكمه إلى الآية القرآنية: “فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم”. وكانت المدّة التي أمضتها الأختان في السجن قد قاربَت الأسبوعين أو أكثر بقليل، لكن من دون توفّر ما يؤكّد ذلك، إذ لم يتوفَّر في ملفّ قضيّتهما إلا على ورقة الحكم وتاريخها في 7 كانون الثاني/يناير 2017. وفي الأدلة المُثبتة ضدّهما مجموعة صور أوراق مدوَّنة عليها عبارات غير مفهومة وطلاسم، ويعود تاريخها إلى 25 كانون الأول/دسمبر العام 2016، ويرجَّح أن يكون هذا يوم اعتقالهما.

 

 

هناك روايات كثيرة يتداولها الناس عن أن التنظيم اعتقل مشايخ تصوّف واتّهمهم بممارسة أعمال السحر، وكتابتهم الحجابات، وإقامة موالد. لكن في الوثائق المتوفّرة في المتحف لم نقع على أحكام إعدام، أو أحكام أخرى سوى المذكورة أعلاه، وهي محصورة بمدينة الرقّة ومحدودة جدًا، وتغطي مدة زمنية تقارب الستّة أشهر.

حياة النساء في سجن قوانين “داعش”

انشغل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بابتكار قواعده الخاصة بالنساء، وشكل ذلك هاجسًا أساسيًا له، فتعامل معهنّ على أنهنّ كائنات قاصرات تابعات للرجال، وتشدّد في السيطرة على أجسادهنّ وحركاتهنّ سيطرة كلّية، حتى في حياتهنّ الخاصة وداخل منازلهنّ.

فقد جعل التنظيم من إلزامه النساءَ، في الأماكن العامة، بتحجيبِ أجسامهن تحجيبًا كاملًا ولا يُسفرن حتى عن أعينهن، سياسة أراد بها إبراز دعاياته المشهديّة عن سيطرته على المناطق التي استولى عليها وأخضع سكانها وأهلها لعسف سلطته.

وهذا يتعلّق بالنساء المسلمات اللواتي فرض عليهن قواعد عقيدته السلفية المتشدِّدة. أما النساء غير المسلمات، الإيزيديّات مثلًا، فقد حوّل حياتهن إلى جحيم، إذ خصّص حملات لاختطافهنّ أو “سبْيِهنّ” بحسب قاموسه اللغوي، ثم استعْبَدهن جنسيًا بوصفهنّ “جاريات” وباعهن في سوق “السبايا”، على ما توضح شهادات ناجيات إيزيديات. كما فرض التنظيم زواجًا قسريًا على فتيات مسلمات بينهنّ قاصرات حين أرغم أهلهن على تزويجهن من عناصره. بينما أقدم أشخاص على تزويج بناتهم القاصرات من منتسبين إلى التنظيم، طمعًا في التقرّب من سلطته والتمتّع بشيءٍ مِنْ نفوذه.

هذا كلّه تشير إليه وثائق وتعميمات الحسبة التي أصدرت قرارات وأحكامًا هدفها ضبط سلوك النساء، ومعاقبة اللواتي خالفْنَ مدوّنة قوانينه وأحكامه الواردة في كتاب اللائحة العامة لديوان الحسبة”.

فإضافة إلى القرارات المتعلّقة باللباس، من حيث شكله وطريقة ارتدائه وما يجب أنْ يحجبه من الجسم ورائحته ولونه، تثبت الوثائق حجم العسف الذي أوقعه التنظيم على النساء، بفرضه قيودًا على حركتهنّ وخروجهنّ من منازلهنّ، كما على عملهن، ورهنه حياتهنّ كلّها بطاعتهنّ الرجال. وهذا مع أنّ كثيرات من النساء كنّ مُعيلات لأسرهن، بسبب غياب أزواجهن في ظروف الحرب، سواء في سوريا أو العراق.

تظهر الوثائق، كما شهادات نساء اعتقلهنّ التنظيم، أنّ نساء أخريات تعاونَّ معه، وبعضهن تطوعْنَ في جهاز الحسبة، فأُوكِلت إليهنّ مهامّ الدهم والتفتيش والاعتقال، أي تلك المهامّ المتعلقة بنساء مخالفات.

وهناك في هذا الباب عرضٌ لقرارات وأحكام أصدرتها الحسبة واستهدفت النساء. وهي تبيِّن تفاصيل معاناتهنّ والسياقات التي اتُّخِذَت فيها تلك القرارات والأحكام.

لباس النساء الشرعيّ 

يُلزِم أحد القرارات الصادرة عن التنظيم النساء بتحجيب أعينهنّ، ويُشَدّدُ حتى على سفور إحداهما. وورد في الوثيقة: “لم يستثنِ السلف إلا عينًا واحدة (من السفور) اضطرارًا للرؤية، ولما وجدنا في عصرنا ما تُستر به العين مع إمكانية الرؤية فقد تَعَيَّن عدم الأخذ به (الاستثناء)، إذ إن جمال المرأة في وجهها، وجمال وجهها في عينها”. وهذا طالما أنّ ذاك الجمال هو مصدر الفتنة والإثارة والشهوة، وهو الذي يتوجّب ألا ينكشف إلا للرجال الذين تكون النساء حرماتهم، أو حرمات لهم وفي حصانتهم كما هو مقرَّر في أعراف “داعش”، طالما أن “الرجال قوّامون على النساء”، على ما ورد في سورة النساء في القرآن الكريم.

وقد وردت في الوثيقة أيضًا آيات قرآنية وأحاديث نبوية تحثّ النساء على ارتداء ثيابٍ محتشمة، وقد أوّل التنظيم تلك الآيات والأحاديث تأويلاً تعسّفيّاً لفرضه تحجيب وجوههن بأكملها. وشددت الوثيقة على مساءلة كل امرأة تخالف القرارات الصادرة عن “أمير ديوان الحسبة”. وفي وثيقة أخرى صادرة عن أحد أمرائها في الرقة، المدعو “يوسف بن صالح العربي”، كُلِّف عناصر الحسبة ضبط النساء غير الملتزمات بالثياب المفروضة، وحُدِّد المكلفون بذلك وكيفيّة تغيير عباءة المرأة المخالفة، وذلك وفق الطريقة التالية:

  • إحضار وليّها إلى مقرّ الحسبة، وإشهاده على مخالفتها، وإجباره على تغيير (تبديل) عباءتها.
  • تغيير عناصر الفرقة النسائية التابعة للحسبة عباءة المرأة المخالفة، سواء داخل مقر الحسبة أو في مركبة الفرقة (حافلة كبيرة محجوب ما في داخلها حجبًا تامًا).

وهناك وثيقة عنوانها “فرض الحجاب الشرعيّ” تدعو النساء إلى الحشمة في ملبسهنّ، مشددةً على معاقبة كل امرأة يخالف لباسها القواعد التي فرضها التنظيم على اللباس. وتحدّد الوثيقة الشروط المتوجب توافرها في الحجاب الشرعي، ومنها:

  • حجب جسد المرأة كاملًا، حتى وجهها وكفّيها وعينيها.
  • أن يكون الحجاب سميكًا غير شفّاف وغير معطر ولا يشبه ملابس الرجال ولا ملابس من تصفهنّ الوثيقة بـ”النساء الكافرات”.
  • ألّا يحتوي لباس النساء أي شكل من أشكال الزينة، وأن يكون واسعًا وفضفاضًا.
  • من شروط العباءة التي ترتديها النساء أن تكون بلونٍ واحدٍ وداكن.

لم تكن قواعد اللباس مجرد كلمات في قرارات التنظيم وبياناته، بل غالباً ما كانت تُطبَّق على النساء، فتُعاقَب المخالِفات منهن بالسجن والجلد والخضوع لدورة شرعية، على ما تشير الوثائق والشهادات المتوفّرة.

لكن بالرغم من تشدّده في إعلان قراراته، ربما للتظاهر بانضباط عناصره، ولحمل عموم الناس على التقيّد بالقواعد التي أعلنها وفرضها عليهم، هناك شهادات لبعض من اعتقلهم التنظيم تثبت خلاف ذلك. فعلى سبيل المثال، تشير شهادات سجلناها لمعتقلات سابقات عند التنظيم، إلى أنّ المحقّقين ساوموا نساءَ في جلسات استجوابهن لحملهن على التعاون مع التنظيم. وهناك شهادة مصورة لمعتقلة سابقة تؤكد فيها أن عناصره تحرّشوا بها.

 

 

المحْرم وضوابط السفر والعمل

وشملت قيود “داعش” على النساء ضوابط تنقُّلِهنّ، فمُنِع خروجهنّ من المنزل إلى الأماكن العامة وسفرهن، إلا في حالات محدَّدة وبرفقة ما يُسمى “المُحِْرم[2]” من ذكور العائلة. يؤكد ذلك القرار-الوثيقة الصادرة عن ديوان الحسبة بعنوان “ضوابط سفر النساء بدون مُحْرِم”. وعليها في الحالات العادية أن تكون برفقة أحدهم أثناء خروجها من منزلها أو سفرها.

أما في حال النساء اللواتي فقدن محرمهن من هؤلاء الذكور، فيأذن القرار بسفرهن “برفقة آمنة من النساء”، مشددًا على نصحهن بضرورة “تقوى الله والتزام الحشمة”. وتُستثنى من النساء المسموح لهنّ بالسفر، الفتيات الشابات الممنوعات من السفر منعًا باتًا أو مطلقًا. ومثلهن من يرى المسؤولون في ديوان الحسبة أنهن لسن في حاجة إلى السفر، إلا في حالات محددة. هذا يعني أن أولئك المسؤولين لديهم الحرية في تحديد تلك الحالات على هواهم أو كما يشاؤون. ويشمل القرار تَنَقُّل النساء داخل الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، ويستثني الراغبات في السفر إلى مناطق خارج سيطرته، شرط التزامهن “الضوابط الشرعيّة”.

بناء على هذه الضوابط على تنقّل النساء وسفرهنّ، تعرضت للتوقيف اللواتي شوهدن في الشوارع وحدهن بلا محرم. وأحيانًا أعتقلَت دوريات الحسبة أو شرطتها نسوةً كن برفقة أزواجهن. وذلك للتأكد من أن الرجال الذين شوهدت النسوة برفقتهم، هم أزواجهن فعلًا. وهذا ما تؤكده شهادة مصورة لامرأة اعتقلت في أحد سجون حسبة الرقّة.

 

وثيقة صادرة عن ديوان الحسبة توضّح القواعد التي فرضها التنظيم
على سفر النساء (أرشيف متحف سجون داعش)

 

أدى ذلك كله إلى ارتداع النساء الذاتي أو التلقائي عن الخروج إلى الشوارع والأسواق في المناطق التي سيطر عليها التنظيم. وهنّ فضَّلْنَ على خروجهن من بيوتهن مكوثهن فيها. فحَرمْن أنفسّهنَّ ارتيادَ الأماكن العامة، خشية تعرضهن الدائم للرقابة المشدَّدة والمساءلة، وللملاحقة والتوقيف، في حال مشاهدتهن فيها. وهذا بغية تأكُّد شرطة الحسبة من هوياتهنّ وهويات الأشخاص الذين يشاهَدْنَ برفقتِهم، للتثبت من كون النساء من محارمهم. وأضافة إلى ذلك هناك الرقابة المستمرة على اللباس والحجاب، للتثبت من كونهما مطابقين للضوابط المفروضة على النساء.

ولفرض سيطرته على الحياة اليومية في المجال العام، منع “داعش” الكثير من الأعمال التي كانت متاحة للنساء في السابق. وفي أماكن العمل كلّها حظر اختلاطهن بالرجال حظرًا تامًا، بحسب تفسيراته الحرفية لبعض نصوص الفتاوى الدينية. فقد نصّ أحد التعميمات الصادرة عن ديوان الحسبة وديوان الصحة العامة، على قرار مشترك بين الديوانَيْن يقضي بمنع النساء من العمل في السكريتاريا، وفي استقبال المرضى وتنظيم مواعيد زياراتهم/ن عيادات الأطباء الذكور، الذين حُظِر عليهم استقبال النساء في عياداتهم، إلا إذا كنّ برفقة رجل محْرم.

وفرض التنظيم على النساء العاملات في المهن الطبية والصحية، أي الطبيبات والممرضات والعاملات في المشافي، عدم التواصل أو التعامل مع المرضى الذكور، واقتصار عملهن وتعاملهن على المريضات الإناث فقط. أما أطباء الأمراض النسائية الذكور، فمنعهم منعًا جازمًا من الكشف على النساء، ومن العمل في اختصاصهم هذا، وأمر بنقلهم إلى أعمال أخرى، حسبما نصّت إحدى الوثائق الصادرة عن جهاز حسبة التنظيم.

“كتيبة الخنساء” النسائية

في شهاداتهن المصورة، تروي سجينات سابقات في سجون التنظيم، أنهنّ اعتُقلن على يد عناصر الكتيبة النسائية، أو الفرقة النسائية التابعة لجهاز الحسبة، والتي سُميت “كتيبة الخنساء”. والنساء اللواتي نفذن الاعتقال كنَّ من جنسيات مختلفة. وكانت نساء هذه الكتيبة/الفرقة مكلفات بالتعامل مع النساء المشتبه بهنّ وبسلوكهنّ، فجاز لهنّ توقيفهنّ وتفتيشهنّ واعتقالهنّ وتعذيبهنّ في أحيان كثيرة، ثمّ متابعة القضايا المتعلّقة بتوقيفهنّ.

وفي وثيقة صادرة عن ديوان الحسبة، يطلب “أمير الديوان” من “أمراء مراكز الحسبة” أن يرسلوا له كل ما يتعلق بعمل الفرقة النسائية من آلية عمل، ونماذج إدارية”. وهو يطلب أيضًا إعداد “تقرير شامل عن عمل الفرقة النسائية في الفترة الماضية، على أن يتضمن السلبيات والإيجابيات والمعوقات”. وتحدد الوثيقة – التعميم مدة أسبوع لإنجاز المهمة المطلوبة.

في وثيقة أخرى، تدخل في إطار التعليمات الإدارية والتنظيمية الداخلية التي كان يصدرها التنظيم، يمنع أمير ديوان الحسبة أبو علي السوداني “استخدام الفرقة النسائية في غير مجال الحسبة”. أما الوثيقة الصادرة عن ديوان الحسبة والموجهة إلى أمرائها في الولايات، فيبدو أنها تستهدف ضبط عمل جهاز الحسبة. ويلاحظ ظهور اسم أبو علي السوداني أميرًا للحسبة، بعد يوسف بن صالح العربيّ.

وتثبت الوثائق وشهادات المعتقلات والمعتقلين، أن الفرقة النسائية كانت نشيطة في عملها. واعتمد التنظيم على تجنيد النساء الأجنبيات فيها اعتمادًا كثيفًا. فقد ذكؤرت بعض المعتقلات في شهاداتهنّ أن النساء اللواتي أشرفْنَ على اعتقالِهِنَّ والتحقيق معهنّ، كانت بينهن نساء أجنبيات. وفي مدينة الرقّة كان عددٌ من النساء الملتحقات بالتنظيم من بلدان المغرب العربي. وقد نشطن في دوريات الفرقة النسائية، إلى جانب نساء سوريات معظمهنَّ من أرياف مدينتي حلب وإدلب، بحسب روايات بعض الشهود.

وقد نشط التنظيم في تجنيد نساء من المجتمع المحلّي، لحملهن على العمل في تزويده بمعلومات عن بعض الأشخاص. خصوصًا أولئك الذين واللواتي يعملون ويعملن في ما حظره التنظيم من أعمال، كبيع علب التبغ أو الحبوب المخدرة. وكذلك عن اتباع الطرق الصوفية وطقوسها وشعائرها. وقد يكون ذلك مبنيًا على اعتبار إنّ للنساء المحليّات دراية ومعرفة واسعتين بشؤون المجتمع الذي ينتمِيْن إليه ويعشْنَ فيه. ويمكن لبعضهنّ الحصول على معلومات عن مجتمعهنّ، لا تتوفر دائمًا للرجال.

تعميم صادر عن “ديوان الحسبة” حول آلية عمل الفرقة النسائية (أرشيف متحف سجون داعش)

نساء متمرِّدات 

على الرغم من التشدّد والعنف اللذين اتبعهما التنظيم في معاملته النساء، وشمولهما معظم وجوه حياتهنّ، فأن بعض النساء تَمَرَّدْن على تسلط التنظيم عليهنّ. هذا ما تثبته شهادات مصورة روتها نساء معتقلات سابقات في سجونه.

فبعض النسوة، وبالرغم من تكرار اعتقالهنّ، لم يُقْلِعْن عن أعمال ومسالك حظرها التنظيم، كإتجارهن بالتبغ ومداومتهن على التدخين. وهناك من أقدمن على الخروج من بيوتهن بلا محرم، ومن ارتدين ثيابًا ملونة تحت عباءاتهن الإلزامية القاتمة اللون، ومن تزيَّنّ بمساحيق، واستعملن العطور. هذا إضافة إلى استمرار بعض النساء في اتصالهنّ برجال جمعتهُنَّ بهم علاقات عاطفية أو علاقات عمل.

ولمن رفضْنَ التعاون مع التنظيم، أو تزويده معلومات في جلسات التحقيق معهنّ، أو أعرضن عن إغرائه إياهن بالعمل في الفرقة النسائية التابعة للحسبة، نصيب من الشهادات ومن الوثائق المتوفِّرة في المتحف.

هذه النماذج، على الرغم من بساطة أشكال مقاومتها وتمرّدها وتعبيرها، وعدم انتظامها وتشابكها في إطار منظم، واقتصارها على ردّات فعل عفوية وشخصية، ظلَّت حاضرة وناشطة في مدن وبلدات سورية وعراقية أخضعها التنظيم لعسفِ سلطته وإرهابه.

وثائق العلاقات الجنسية

تشدّد التنظيم في الرقابة على العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزواج، وأي علاقات جنسية مثلية، وفرض عقوبات على مرتكبيها تتراوح بين الجلد والرجم والسجن وفرض حضور الدورات الشرعيّة.

نستعرض في هذا التحقيق الوثائق التي حصل عليها “متحف سجون داعش” حول قضايا أدرجها التنظيم في خانة “القضايا غير الأخلاقية”، والأحكام التي صدرت فيها وأسانيدها.

العلاقات الجنسية خارج الزواج

يوم الخميس الواقع فيه 17 تموز/يوليو 2014، نفذ التنظيم أول رجم لامرأة في مدينة الطبقة بريف محافظة الرقّة الغربيّ، وذلك بعد صلاة العشاء بقليل، وبعد أسابيع على إعلان قيام “دولته الإسلامية”. كانت المرأة في الثلاثينات من عمرها، ورُجِمت لـ”إقامة حدّ الزنا” عليها. وبعد تلك الحادثة كرّر التنظيم تنفيذ أحكام الرجم على نساء ورجال في مناطق سيطرته.

فقد شكل الفصل بين الجنسين، وكذلك علاقة النساء بالرجال، هاجسًا أساسيًا في المخيّلة الدينيّة والاجتماعيّة لتنظيم الدولة، وشرعه وأحكامه في مناطق سيطرته في سوريا والعراق. لذلك يحاول هذا التحقيق الكشف عن أشكال تعامل “داعش”، وبالتحديد حسبته، مع ما يعتبره “الدعارة والزنا وشبهة الزنا والقوادة”، وعن أسانيده الشرعية المعتمدة في أحكامه على من اتهمهم/نَّ بها، وكذلك عن أساليب وظروف تحقيقاته مع المتهمين/ات وأحكامه عليهم/نَّ.

نستعرض ونحلِّل في التحقيق التالي 41 وثيقة صنّفها التنظيم تحت عنوان “الدعارة والزنا وشبهة الزنا والقوادة”، جمعها “متحف سجون داعش” في مدينة الرقّة السورية.

تغطي وثائق هذا الباب مدة زمنية محدّدة تقع ما بين أيار/مايو العام 2016 ومطلع العام 2017. و39 قضيّة من القضايا الـ41 تتعلَّق بذكورٍ، ستّةٌ منهم قاصرون. وهناك قضيتان فقط تتعلّقان بأُنثَيَيْن إحداهما قاصر، والثانية في أواخر الثلاثينات من عمرها.

ضمّت الوثائق 13 وثيقة حكم، ثمانية منها صدرت عن ديوان الحسبة، وخمسة عن المحكمة الشرعية العامة في الرقة التابعة لـ “ديوان القضاء والمظالم”.

المواليد عدد المتهمين
1970-1960 ثلاثة رجال
1980-1970 أربعة رجال وامرأة واحدة
1990-1980 سبعة رجال
2000-1990 16 رجلاً
2010-2000 رجلان وامرأة

يبيّن هذا الجدول أنّ أكثرَ من ثلث من قُبض عليهم (16 من 41 شخصاً) في قضايا تتعلق بعلاقات بين الجنسين هم من المراهقين والفئة العمرية الشابة. وكان عناصر التنظيم يقبضون عليهم بناء على شبهات. فبعضهم لم يفعل أكثر من مغازلته ابنة الجيران، أو لقائه بها في الشارع أو في مكان آخر.

وصف الوثائق

يمكن اختصار خصائص وأصناف وأنواع الوثائق الـ 41 المذكورة، على النحو التالي:

  • 39 وثيقة تتعلق برجال، ووثيقتان بامرأتين، إحداهما قاصر. وقد نُفّذَ بهما حدّ الرجم، مِنْ دون توافر تفاصيل عن الحادثتين.
  • بعض الوثائق الخاصّة بِرِجال ذُكرَت فيها أسماء نساء. لكن أسماء النساء تَرِدُ بوصفهن معتقَلات في سياق التحقيق مع رجال كانوا على علاقة بهنّ.
  • كل قضية من القضايا الـ 39 يحوي ملفّها الورقيّ واحداً او اثنين من المستندات الثلاثة التالية: استمارة التحرّي (كليشة التحري) ومحضر التحقيق ونصّ الحكم، لكن لا تتوفّر في كل ملف الوثائق الثلاث مجتمعة.
  • التسجيلات الصوتية عددها 23 تسجيلًا: 21 منها تنقل وقائع جلسات تحقيق مع 19 رجلاً، واثنان مع المرأتين المعتَقَلتَيْن. وهناك تسجيلان لبلَاغَيْن، أحدهما من عنصر في التنظيم ضدّ زوجته، والثاني من اثنين من الفتيان عن جارهما. مدة التسجيلات تتجاوز الساعات الثلاث بقليل. وتتراوح مدة كلّ تسجيل بين دقيقة ونصف الدقيقة إلى نصف الساعة.
  • لا تتوفّر تسجيلات صوتية لكلّ التحقيقات، وليست كلّ الأحكام على المتهمين والمتهمات واضحةً كما يُفتَرَض.

البلاغات والتحقيقات

يرد في الفصل السابع من الباب السادس من كتاب “اللائحة العامة” عنوان “القضايا الأخلاقية” التي يندرج فيها: “الزنا، فعل قوم لوط، السّحاق، القوادة”. وهذه يكفي لإثباتها، بحسب الكتاب، اعتراف أحد طرفيها بوقوعها. وينوّه الكتاب بوجوب “اختيار الألفاظ الشرعيّة” لوصف وقوع تلك الأفعال، وتدوين أحوال من يُقبض عليهم ويُتَّهمون بها، وكذلك القرائن والأدلّة الاتهامية. وهناك تشديد على ضرورة “الاطّلاع على الفيديو كاملًا”، في حال توفره عن هذه الحادثة أو تلك. وهذا يعني وجود تسجيلات مصورة للتهم في هذا الباب. ويطلب الكتاب من عناصر الحسبة إحالة كل متّهم بها إلى المحكمة الشرعية مباشرة، كما يحدّد ما يسمّيه “ضوابط عامة” للتعامل معها، ومنها:

  • عدم كتابة الألفاظ والأفعال الصريحة في محاضر القبض والإحالة، على اعتبار أن الوقائع غير مُثْبَتة. وفي حال وجود مقطع فيديو، على المحتسب انتداب امرأة من عناصر الحسبة للكشف على المتهمة، والتأكد من أنها هي التي تظهر في الفيديو. كما يجب أن يتولّى الكشف على أي مضبوطات ثلاثة من عناصر الحسبة المتزوجين.
  • في حال ضبط متهم بالقوادة، يُطلب وصف حالته وصفًا دقيقًا، وكذلك كيفية قيامه بأفعاله، سواء في منزله أو في مكان آخر.

تحوي التسجيلات الصوتية الـ 23 والوثائق التي حصلنا عليها على بعض البلاغات، التي يمكن وصف بعض نماذجها:

  • يُسمع في أحد البلاغات صوت عنصر في التنظيم، لقبه “أبو عمر الداغستاني” يبدو من لغته العربيّة الضعيفة أنه أجنبي، وهو يبلّغ عن زوجته قائلًا إنها اعترفت له بحضور رجل إلى منزلهما الزوجي أثناء غيابه عنه، لكن الرجل هرب أو اختبأ قبيل دخول الزوج المنزل. ويؤكد الزوج أنه سمع، قبيل دخوله، شخصاً يجري مكالمة هاتفية. ولما بحث بين أرقام المكالمات الواردة إلى الهاتف الذي تركه الرجل المختفي، اكتشف رقم هاتف البقّال في الطابق الأرضيّ من البناية. وبحسب اعترافات زوجته أن البقال نبّهَ هاتفيًا الرجل الذي كان عندها بقدوم الزوج الداغستاني. وهذا يرد أيضًا في محضر تحقيق آخر مع البقال.
  • في أحد البلاغات يشكو شخصان، أحدهما قاصر، جارهما الذي شاهداه مع فتاة، ويذكران سلوكه لعناصر الحسبة.
  • في بلاغ ثالث يشتكي رجل على صديقه الذي أخبره عن علاقته بفتاة، وخروجهما معًا بنيّة زواجه منها. لكن صاحب هذه النية انفصل عن الفتاة، أو لم يتزوجها، وهذا ما حمل المبلِّغ على القول للمحقق إنه يشك في سلوك صديقه مع الفتاة وبطبيعة علاقته بها.
  • تبيّن وثائق الدعاوى التي اتهم أصحابها بما يسميه التنظيم “الدعارة وتسهيلها”، أن المتهمين يعللون أفعالهم بالعامل الاقتصادي الذي أرغمهم على ذلك. وهذا ما يقوله الرجلان المتَّهمان بتسهيل الدعارة. فأحدهما يشكو سوء أحواله المادية، ويتحدث الآخر عن عجزه بسبب فقده البصر. والنساء اللواتي لم تثبت عليهن سوابق، يعللن ما يُتَّهَمْن به بضيق ذات اليد والفقر.
  • في بعض القضايا قد تقترن الحاجة المادية بالعلاقات العاطفية. كمثل علاقة تاجر وصاحب سيارة بامرأتين تعملان في تهريب علب دخان وبيعها. ينقل الرجل المرأتين في سيارته ويتواطأ معهما على تمريرهما على حواجز التنظيم. فهو مرتاح ماديًا، وقدّم لإحدى المرأتين مساعدة مالية، بحسب ما يفيد في التحقيق معه.

 

وبناء على تسجيلات التحقيقات، يمكن استخلاص وقائع ومواصفات عدة تتعلّق بالتهم وأنواعها، وبأساليب التحقيق، وأنواع الأدلّة:

  • تُلاحظ في التسجيلات دقة أسئلة المحققين، لانتزاع اعترافات المتهمين/ات. وهؤلاء يطلب منهم المحقّقون أكثر من مرة ذكر التفاصيل كما هي، وبدقة متناهية لا تخلو من الإحراج.
  • لا تحوي التسجيلات أدلّة على ممارسة عنف جسدي أو تعذيب على المعتقلين والمعتقلات. لكن هذا لا ينفي أن التعذيب يمكن أن يكون قد مورس عليهم في جلسات تحقيق غير مُسجّلة.
  • لا تخلو بعض البلاغات والتحقيقات من ابتزاز أو مشاكل شخصية. في أَحدِها تبلِّغ أم عن ابنتها التي سافرت إلى خارج سوريا، بأنها كانت على علاقة برجلين، ما أدّى إلى اعتقالهما.
  • اشتكى شخصان متّهمان بالدعارة في التحقيق معهما من سوء أحوالهما المادية، ومن عدم توفّقهم بعمل. وهذا ما دفعهما إلى مثل تلك الممارسات.
  • يظهر في التسجيلات استعلاء المحقّقين على المتهمين. وهم لا يتحرجون أثناء التحقيق من التلفظ بكلمات نابية، وتوجيه شتائم سوقية إلى بعض المتهمين. فأحد المحققين يخاطب رجلًا متهمًا بتسهيل الدعارة، شاتمًا إياه مرارًا وتكرارًا: “أختك… وزوجتك…”، ثم يصرخ مرددًا كلمات نابية.
  • كحال معظم تسجيلات التحقيقات الخاصة بعناصر الحسبة التي حصلنا عليها، يمكن تمييز صوتَيْ محقِّقَيْن اثنين أساسيّين هما “أبو سيف مقص” و”أبو حذيفة السلفي”. أما على محاضر التحقيق الورقية فنقرأ، إلى جانب هذين الاسمين، أسماء إضافية منها: أبو حمزة الشرعي وأبو أنس الفراتي وأبو جهاد الغريب وأبو زيد السخني وأبو فهد العامري.

الأحكام والأسانيد والعقوبات

شملت وثائق القضايا الـ 41 في هذا الباب، 13 وثيقة حكم واضحة صدرت ثمانية أحكام منها عن ديوان الحسبة، وخمسة عن “المحكمة العامة التابعة لديوان القضاء والمظالم” في الرقّة.

ولم تُحَل الأحكام الصادرة عن الحسبة إلى ديوان القضاء – كما ينص كتاب “اللائحة العامة”، بسبب اقتصار التهم الواردة فيها على الشبهات فقط.

تراوحت الأحكام الصادرة عن الحسبة بين إخلاء السبيل ومتابعة دورة شرعية والسجن والجلد بالسوط 40 أو 70 جلدة. ومعظم هذه الأحكام اشتملت على عقوبة مزدوجة أو مثلَّثة، مثل السجن 15 يومًا والجلد 70 جلدة والخضوع لدورة شرعيّة. أمّا أحكام الحسبة منها ما ختمه ووقّعه القاضي “أبو حمزة التونسي”، ومنها ما يخلو من ختم وتوقيع، ومن نصّ السند الشرعي الذي استندت إليه.

أما القضايا الخمس المحالة إلى “المحكمة العامة التابعة لديوان القضاء والمظالم”، فقد تراوحت الأحكام فيها بين الرجم وإخلاء السبيل مع البراءة. ويستند قضاة ديوان القضاء والمظالم في أحكامهم إلى آيتين قرآنيتين وعدد من الأحاديث. أما الآيتان فهما:

  • الآية 32 من سورة الإسراء: “ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلًا”.
  • الآية 2 من سورة النور: “الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين”.

والحديثان المنسوبان إلى الرسول هما:

  • “المرأةُ إن قَتَلت عَمدًا لا تُقتلُ حتى تَضَعَ ما في بطنها إن كانت حاملًا، وحتى تُكفِّلَ ولدها، وإن زَنَت لا تُرجم حتى تضعَ ما في بطنها.
  • “خذوا عني، خذوا عني فقد جعل الله لهنّ سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة”.

إضافة إلى حديث منسوب إلى عمر بن الخطاب:

– “إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، وأن يقول قائل لا نحدّ حدّين في كتاب الله، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجم ورجمنا بعده، فوالله لولا أن يقول الناس أحدث عمر في كتاب الله لكتبتها في المصحف، فقد قرأناها، والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة”.

استنادًا إلى الآيتين والأحاديث هذه، أصدر قضاة المحكمة العامة أحكامهم في القضايا المتوفّرة وثائقها. أما القضاة الواردة أسماؤهم في الدعاوى فهم “أبو الفاروق المهاجر” و”أبو معن النجدي” و”أبو حذيفة” الذي يرد اسمه في قضية واحدة بلا لقب آخر إضافي.

 

وهنا عرض لنماذج من التحقيقات والأحكام والعقوبات:

  • حكم قاضي الحدود والجنايات في المحكمة العامة في الرقة، “أبو الفاروق المهاجر”، بتاريخ 7 كانون الأول/ديسمبر العام 2016، على سيدة تمثل أمامه بالرجم. وذلك استنادًا إلى تحقيقات جهاز الحسبة، واعتراف المتهمة أمامه أنها دخلت في علاقة مع رجل غير زوجها مقابل المال. لكن القاضي، بحسب وثيقة الحكم، أجّل تنفيذ حدّ الرجم بالمرأة لأنها حامل، واشترط أن تلد وترضع طفلها وتفطمه، قبل أن تنفذ شرطة التنظيم القضائية الحكم عليها. ولا نعلم ما إذا كان الحكم قد نُفذ بالمرأة أم لا. فالولادة والإرضاع والفطام قد تستغرق مدّة تزيد عن عام أو عامين، كان التنظيم قد فقد سيطرته على مدينة الرقة قبل انقضائها.

أما الرجل الذي اعترفت المرأة بعلاقتها به، فقد نال حكمًا بالجلد 100 جلدة، إضافة إلى نفيه مدة سنة من الرقّة إلى مدينة الميادين. هذا يعني تخفيف الحكم عليه، لأنه لم يكن متزوجًا عند ارتكابه فعلته، على خلاف المرأة التي كانت متزوجة، وحُكمت بالرجم. وكان الرجل المحكوم من أصحاب السوابق في السرقة وتجارة المخدرات. وهو يعترف في محضر التحقيق وفي التسجيل الصوتي بعلاقته بامرأتين، كان التنظيم طبّقَ عليهما حدّ الرجم في وقت سابق، بحسب الوثائق التي لا تتوفّر فيها عن المرأتين معلومات أخرى.

وكان هناك رجل وسيط في العلاقة بين المرأة والرجل في هذه القضية، وهو جار ضرير للمرأة التي حُكمت بالرجم، وشغل دور وسيط في علاقة جارته الأخرى برجل. وقد اعترف أنه قام بعمله لقاء المال وبسبب سوء أحواله المادية. والمرأة بدورها تؤكد للمحقّق في إفادتها المسجَّلة أنّها أقدمت على ما فعلته لتصرف على ابنتها. ولا تتوفر وثيقة حكم على الرجل الضرير، الذي يؤكد للمحقق توبته في جلسة التحقيق المسجلة. ومن الواضح، استنادًا إلى التحقيق معه، أنه نال حكمًا أخف من اللذين نالهما الرجل (الجلد والنفي) والمرأة (الرجم).

  • هناك امرأة لم يتوفر ملفها كاملًا بين الوثائق، واتهمت بالهرب مع ابن عمها الذي جمعتها به علاقة عاطفية، على أن يتزوجا لاحقًا. وقد حكمها القاضي بالبراءة، إذ لم تكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من العمر عند وقوع الحادثة في العام 2016 (هي من مواليد 2002). أما ابن عمها فحكمه القاضي بالجلد 100 جلدة، وبالنفي مدّة سنة كاملة من الرقة إلى معدان.
  • في قضية أخرى تعود لرجل من مواليد العام 1977، يحكم القاضي عليه بالجلد 90 جلدة، إضافة إلى نقل محله من السوق. وذلك بعدما أقرَّ بأنه أقام علاقة بامرأة من دون أن تحصل بينهما علاقة جنسية كاملة.

الاغتصاب والمثلية

في واحدة من وثائق تحقيقات جهاز الحسبة في الرقّة يُدْلي خمسة قاصِرون ذكور بإفاداتهم إلى عناصر قسم التحرِّي في الحسبة، فيروون تفاصيل اعتداء جنسي لثلاثة رجال عليهم بشكل متكرر، وفي مرّات منفردة ومتفرقة. وتكشف إفادة أحد الأولاد، بحسب ما يرد في مدوّنة التحقيق، عن أن خمس فتيات صغيرات كنَّ أيضًا ضحايا الرجال الثلاثة إياهم، وهو ما دُوِّن من دون توفر ما يشير إلى أنّ جهاز الحسبة حقّق في الحادثة.

يستجلي هذا الباب تفاصيل الحادثة وغيرها من أمثالها كما وردت رواياتها في وثائق تحقيقات جهاز الحسبة. ويكشف أيضًا عن كيفية فهمه (الجهاز، والتنظيم تاليًا) حوادث الاغتصاب والاعتداء الجنسيّ على الأطفال. ومن ثم يتتبع تصرف التنظيم حيال هذه القضايا، وخلطه الواضح بينها وبين المثلية الجنسية.

وصف القضية 

بناءً على إفاداتهم التي دوّنها أحد عناصر جهاز الحسبة في الوثيقة المتوفّرة في المتحف، يبدو أن الأطفال الخمسة بلَّغوا عناصر الجهاز بتعرّض كل منهم إلى اغتصاب متكرر أو سلسلة اعتداءات جنسية. وروى طفل منهم في إفادته أنه شاهد أحد الرجال الثلاثة وهو يعتدي في أوقات متفرقة على خمس فتيات قاصرات.

وقعت جريمة الاعتداء المتكرّر على الأطفال في مسجد الروضة وفي مقبرة قريبة منه. ووفق الوثيقة غالبًا ما كان كل من الرجال الثلاثة يستدرج أحد الأطفال من ردهة الوضوء في المسجد، ويأخذه إلى مُصلّى النساء، أو إلى المقبرة، فيعتدي عليه. وفي بعض الأحيان كان الرجل المُستدرِج يغري هذا الطفل أو ذاك بمبلغ ماليّ.

تعرّض أحد الأطفال لاعتداء متكرّر في المقبرة أو في الجامع، من الجناة الثلاثة. وروى طفل آخر أن أحد الجناة طلب منه مرة التوجّه معه إلى مُصلّى النساء ليساعده في تنظيفه. ما إن دخلا المصلى حتى خلع الرجل ثيابه، وحاول إقناع الطفل أن يفعل مثله. ولما رفض، أقدم الرجل على نزع ثياب الطفل بالقوة، ثم اغتصبه خمس مرات بحسب إفادة الطفل.

تتشابه روايات الأطفال في بعض تفاصيلها: يستدرجهم الرجال الثلاثة إلى مصلى النساء أو إلى المقبرة حيث يعتدون عليهم. ومن الواضح أن الجناة الثلاثة ينسّقون عملياتهم هذه في ما بينهم. فاثنان منهم أخوان، والثالث صديقهما.

وروى أحد الأطفال أنه كان يلعب مع ابن عمه في الجامع. ولما سمعا صراخاً توجّها معاً نحو مصدر الصوت، فرأيا رجلًا يحاول اغتصاب خمس فتيات صغيرات، فراحا يرشقانه بالحصى. وعندما وصل الشيخ المسؤول عن الجامع هرب الجاني.

ليس من تسجيلات صوتية لإفادات الأطفال المدونة تدوينًا مقتضبًا في وثيقة هذه القضية. فإفادة كل طفل لا تتجاوز أسطراً معدودة، بلا إفصاح عن تفاصيل الاعتداءات الفعليّة التي تعرضوا لها.

في الجانب الآخر، جانب المتّهمين، يثبت محضر التحقيق اعترافات اثنين من الرجال الثلاثة. يعترف أحدهم باستدراجه الأطفال والبنات إلى مُصلّى النساء في جامع الروضة، وبإعطائهم مبلغ 100 ليرة في كل مرة. وهو يقرُّ باعتدائه على طفلة من اللواتي ورد ذكرُهنّ في إفادات الأطفال. ويعترف جانٍ آخر من الثلاثة باعتدائه على طفل واحد. أما الشريك الثالث في الجريمة فليس في ملف القضية سوى وثيقة القبض عليه مع شريكَيْه، وهي مؤرّخة بتاريخ 10 أيار/مايو العام 2016.

مرجع الحكم الغائب

في أسفل محضر التحقيق في القضية، تظهر إشارة إحالة الجناة إلى المحكمة الشرعية العامة، وذلك لكون هذا النوع من القضايا، بحسب كتاب “اللائحة العامة”، يُحال بعد التحقيق إلى القاضي الشرعي، وليس ديوان الحسبة مخوّلاً البتّ فيه.

أما محضر التحقيق الذي لا تتوفّر فيه أية وثيقة توضح مصير المغتصبين الثلاثة، فهو لا يشير إلى الجريمة باعتبارها اغتصاب أطفال، بل اكتفى بتدوين عبارة: “لواط أو عمل قوم لوط”. وهذه واردة في الكتاب نفسه الذي لا ذكر فيه لجريمة اغتصاب الأطفال بين القضايا التي يُكلف جهاز الحسبة متابعتها ومحاسبة المتورطين فيها. وفي الباب السادس من فصله السابع، يكتفي الكتاب بالإشارة إلى ما يسميه “القضايا الأخلاقية”، ويحددها بأربع: “الزنا، فعل قوم لوط، السّحاق، القوادة”.

لذا لم يطلق محققو الحسبة على الجريمةَ التسمية المناسبة لها أو المعاصرة: جريمةَ اغتصاب أطفال. وإدراجُها في باب البنود الأربعة تحت عنوان “القضايا الأخلاقية”، يعني أن عقوبة الجناة المغتصبين تُحدد طبقًا لتلك البنود.

رهاب المثليّة

تتوفر في المتحف وثائق لـ 11 قضية أدرجها جهاز الحسبة تحت تهمة “عمل قوم لوط”. أي “اللواط” بوصفه ممارسة جنسية “شاذة” بين الذكور، ومنسوبة إلى قوم أسطوري قديم، وثني وسابق على التوحيد.

تعود هذه القضايا إلى العام 2016. والواضح أن بعضها لا يشي بممارسات جنسيّة مثليّة، بحسب التسمية المعاصرة والمحايدة لمثليّي/ات الرغبات والميول والممارسات الجنسية. حتّى إن بعض القضايا لا تنطوي إلا على ممازحات كلامية وحركات بذيئة شائعة بين فئات من الناس في الحياة والعلاقات اليومية. ويبدو أن إحداها تتعلّق بشخص تصرّف بهذا الشكل في سوق الرقة أثناء مرور دورية للحسبة فاعتقلَتْه.

تناولت قضية أخرى من القضايا الـ 11 مجموعةً من فتيان قاصرين كانوا يعملون في إحدى الورش ويمارسون فيها ممارسات جنسية مثلية في ما بينهم، فألقى عناصر الحسبة القبض عليهم. لا تتوفّر في هذه القضية سوى وثيقة واحدة عن فتى واحد لا يتجاوز عمره 12 سنة. وهو من اعترف بفعلته مع رفاقه، وصدر عليه الحكم بجلده 150 جلدة على دفعات لأنه قاصر، وإخضاعه لدورة شرعية. وفي تسجيل صوتي يؤكد الفتى للمحقق أنه تعرّض للضرب في مقرّ الحسبة. أما صاحب الورشة، وبوصفه مسؤولًا عن الفتية، فقد حكم عليه بالالتحاق بدورة شرعية، وبكتابة تعهّد ينصّ على ضرورة إبلاغه عن الأولاد إذا كرّروا فعلتهم. وقد اكتُفي بمدة سجنه 15 يومًا بعد اعتقاله.

وهناك بلاغان، يفيد أحدهما أن شابًا عمره 18 سنة اعتدى على أطفال في جامع خالد بن الوليد. وقد ورد في محضر التحقيق مع الشاب أنّه لم يعترف بالتهمة المنسوبة إليه. لكن قاضي الحسبة حكم بسجنه ثلاثة أسابيع وجلده 70 سوطًا، إضافة إلى إلزامه متابعة دورة شرعية. البلاغ الآخر قدمه فتىً يفيد بأن شابين تحرّشا به في المطعم حيث كان يعمل.

 

المخدرات والكحول: قضايا تنتهي بالجلد والمصادرة

حارب تنظيم الدولة الإسلامية في فترة توسّعه في سوريا والعراق تعاطي وتجارة المخدرات والكحول بشكل كبير، وفرض قوانين وأحكاماً خاصة في هذا الإطار، وعدّها من المخالفات الكبيرة والمهمة التي تستوجب ردّة فعل عقابية صارمة وعنيفة تصل إلى الجلد عشرات المرات ومصادرة الأملاك.

يهتمّ هذا التحقيق بتحليل الوثائق التي حصل عليها “متحف سجون داعش” المتعلقة بقضايا حيازة وتجارة المخدرات والكحول وتعاطيها، ويتقصّى ما تضمنته من قرارات وأحكام على المتهمين بهما، وكيف عامل التنظيم من اتهمهم بتعاطي المخدرات والكحول وترويجها إبان سيطرته. وإلى جانب الأحكام المكتوبة تتضمن الوثائق تسجيلات صوتيّة لجلسات تحقيق مع سجناء ومتهمين في قضايا المخدرات والكحول، تبيّن أجواء التحقيقات أثناء استجواب المتهمين، ومضمون الأسئلة التي طُرحت عليهم، والوسائل المتبعة في استجوابهم (التهديد، والتعذيب، الابتزاز، والمساومات).

تنقسم الوثائق المتوفّرة عن تجارة المخدرات والكحول وتعاطيها، إلى 67 وثيقة مكتوبة عن قضايا تتعلق كلها بمتّهمين من الذكور، 36 قضية صدرت أحكام فيها عن الحسبة، أما القضايا الـ 31 الباقية فليس من الواضح إلى ماذا انتهت أحكامها، إذ تقتصر ملفّات موقوفيها وسجنائها على محاضر تلخص التحقيقات معهم، أو على استمارات تحوي معلومات عنهم: الاسم الكامل، العمل، الحالة الاجتماعية، العنوان، وسبب الاعتقال.

كما تتضمن الوثائق 45 تسجيلًا صوتيًا لجلسات تحقيق مع متهمين، تصل مدّتها إلى خمس ساعات ونصف الساعة.

ثلاثٌ فقط من الوثائق تتعلق بقضايا شرب الخمر، والباقي يرتبط بتعاطي أو تداول المخدرات، وهي تغطي بالمجمل المدة الزمنية الممتدّة من حزيران/يونيو العام 2016 إلى آذار/مارس العام 2017، أي حوالي تسعة أشهر من مجمل مدة سيطرة التنظيم على الرقة، والتي دامت من مطلع العام 2014 إلى تشرين الأول/أكتوبر العام 2017.

قضايا الكحول والمخدرات في “اللائحة العامة”

يُخصص الفصلان الخامس والسادس من الباب السادس في كتاب “اللائحة العامة لديوان الحسبة” لأشكال التعامل مع قضايا تحت عنوان “المُسْكِرات” و”المخدِّرات”:

  • فيما يخصّ المسكرات (المشروبات الكحولية) يميّزُ الكتاب بين خمس حالات: “تعاطيها، حيازتها، تصنيعها، ترويجها، وتهريبها”. ويوضح الكتاب أن محاكمة الشخص المتعاطي المسكرات والحكم عليه، ليسا من اختصاص جهاز الحسبة بل يعودان إلى المحكمة الشرعية التابعة للتنظيم.
  • أما بالنسبة إلى المخدرات فيميز الكتاب في فصله السادس بين خمس حالات أيضًا: “تعاطيها، حيازتها، ترويجها، وتهريبها”. أي أنّ الكتاب يقصر إنتاج المخدرات على زراعتها، من دون أن يأتي على ذكر تصنيعها.

وفق “اللائحة العامة لديوان الحسبة” يُحال المُتَّهم بتعاطي المخدرات إلى المحكمة الشرعيّة. أما حالات الحيازة والترويج والتهريب، فيوصي باعتقال المتهم بكل منها للمرة الأولى، وبجلده 90 جلدة، وسجنه شهرًا واحدًا، وإلحاقه بدورة شرعية، ومصادرة الآلية التي استعملها في عمله.

وفي حالة زراعة المخدرات يضيف الكتاب إلى العقوبات السابقة، مصادرة الأرض المستخدمة في زراعتها. أما في حال تكرر اعتقال المُهَّم فيُحال إلى المحكمة الشرعيّة.

المُتَّهَمون

تتعلّق معظم الوثائق التي اطّلعنا عليها وحلّلناها بمتعاطي المخدرات، ولا يتجاوز عدد المتهمين بتجارتها الثمانية أشخاص، بعضهم لم يُضبط لديه سوى بضعة غرامات من الحشيش، أو كمية قليلة من الحبوب المخدرة. وبعض المتهمين بالتعاطي والاتّجار، كانوا قد أُوقفو بالتهم نفسها سابقًا في حقبة سيطرة النظام السوري على مدينة الرقّة.

كما تشير الوثائق إلى أن القسم الأكبر من متعاطي أو متداولي المواد المخدرة أو الكحول هم من مواليد عقدي الثمانينات والتسعينات، والمنتمين إلى الفئة العمرية هذه كانوا في سن الشباب عندما نشبت الحرب في سوريا، وهم الأكثر تأثرًا بظروفها.

سنة الميلاد عدد المتهمين
1959-1950 1
1969-1960 1
1979-1970 7
1989-1980 32
1999-1990 16
2000 3
غير معروف 7
المجموع 67
جدول يوضح التوزع العمري للمتهمين بقضايا المخدِّرات والكحول

جميع المتهمين في قضايا المخدرات والكحول كانوا من الذكور، وبينهم أربعة قاصرين، وفي البحث ضمن التسجيلات الصوتية أو الأحكام أو وثائق التحقيق، لم يظهر اسم أيّ امرأة، سوى في بلاغ واحد قدّمته امرأة بأخيها، واتهمته بتعنيفها وبتعاطي الحبوب المخدرة.

اقتصرت عمليات الاعتقال على أشخاص متّهمين بتعاطي المخدرات وترويجها، ومن الواضح أن اعتقالهم ينطوي على هدف الوصول إلى من يزوِّدونهم بها، أما الكميات التي صادرها التنظيم من المتهمين، فتعتبر زهيدة ومعظمها صودر من أشخاص اشتروها لاستهلاكهم الشخصي.

تظهر بين الوثائق قضيتان تتعلّقان بصيدليَّيْن اثنين اعتقلهما التنظيم بتهمة بيع أدوية بلا وصفة طبية، ويتضح أن هذه الأدوية تُوصف للمصابين بأمراض نفسية وعصبية، بينما لم تسجل الوثائق عمليات مصادرة سيارات مستعمَلة في التهريب، ولا أملاكًا أو أراض لزراعة مخدرات، وقد يشير هذا إلى أنّ قضايا المخدرات كانت محصورة ببعض المتعاطين، ولم تشمل تجارًا كباراً، كحال تجار التبغ ومهربيه.

التحقيقات والأحكام

تبين محاضر التحقيق التي حلّلناها أن معظم المحاكمات اضطلع بها قاضٍ يتبع الحسبة، وتكرر اسم أبو حمزة التونسي في بعض تلك المحاضر، فيما خلا أغلبها من اسم القاضي الذي أصدر الحكم، كما أحيلت سبع قضايا إلى المحكمة الشرعية، أصدر الأحكام فيها كل من أبو معن النجدي وأبو مسلم الجزراوي وأبو الفاروق المهاجر.

كما ذكر اسم محقّقين اثنين في التسجيلات الصوتية للتحقيقات التي حصلنا عليها، هما “أبو حذيفة السلفي” و”أبو سيف مقص”، وفي بعض وثائق محاضر التحقيق ترد إلى جانب اسميهما أسماء كل من “أبو زيد السخني” و”أبو فواز الديري” و”أبو جهاد الغريب”.

وتتركز أسئلة المحقّقين على نوع المادة التي يتعاطاها المتّهم، ومنذ متى يتعاطاها، مع التركيز على السؤال عن الأشخاص الذين يشاركون المتّهم تعاطيها. وتبين التسجيلات الصوتية للتحقيقات أن أغلب المتهمين لا يتعاطون المخدرات منفردين، بل مجموعات وفي جلسات أو سهرات جماعية، وهذا يدفع المحققين إلى الاستفسار عن سبل تزوُّدهم بالمواد المخدرة، وما إذا كانوا قد اشتروها أو حصلوا عليها كـ “ضيافة” من أحد.

كما يسأل المحقق عن المصدر الذي يزود صغار التجّار بالمواد المخدرة، وعن الطرق التي يمكن أن يسلكها التاجر أو المهرب في المدينة أو خارجها.

تظهر التحقيقات أن بعض المتعاطين كانوا “أصحاب سوابق”، وقد دخلوا السجن إما بتهم تعاطي مخدرات أو ترويجها، وإما بتهم أخرى منها المشاجرات ومحاولات القتل وغيرها.

وفي وثيقتين يذكر اثنان من المتّهمبن، أنّهما تعاطيا حبوبًا مخدّرة أو حشيشة الكيف بصحبة عناصر من تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو أنّهما اشتريا منهم المواد المخدّرة. وهذا يشير إلى أن عناصر من التنظيم انخرطوا في تعاطي المخدرات وتجارتها.

معظم التهم التي صدرت بها أحكام بتعاطي المخدرات والكحول (36 من أصل 67 تهمة) تتعلّق بتعاطي الحبوب المُخدّرة أو الحشيشة. أما تعاطي الخمور فيشمل ثلاثة تهم فقط. ويمكن تفسير ذلك بصعوبة نقل الكحول عرضها والإتجار بها في مناطق سيطرة التنظيم، بينما كان من السهل نقل كميات من الحبوب المخدّرة أو الحشيش.

تتراوح العقوبات في الأحكام الصادرة ما بين دورة شرعية، أو الاكتفاء بمدة الحبس، أو الجلد 40 إلى 90 جلدة. وليس واضحاً سبب التفاوت في عدد الجلدات، بالرغم من تماثل التهم، والأرجح أنه تفاوتٌ ناجمٌ عن مزاجية القضاة، وتوصيات المحقّقين حول تعاون المتّهم وإظهار ندمه وتوبته.

يغيب عن الوثائق أسماء تجّار مخدرات مهمين ألقى التنظيم القبض عليهم. فهو قبض على 8 أشخاص بتهمة تجارة حبوب مخدرة وحشيش، لكن بكمّيات قليلة، هذا فيما لم يقبض على أي تاجر كحول.

وتوزعت المصادرات والمضبوطات بحسب الوثائق المتوفّرة على النحو التالي:

 

المادة المصادرة الكمية
كبتاغون 2555 حبة
حشيش 94 غراماً
بالتان 300 حبة
سدفيت 37 حبة
زولام 155 حبة
ترامادول 20 حبة
غير محدد 27 حبة

 

 

 

 

 

  1.  ” ‏داعش‬ ” تلاحق متبعي الطريقة الصوفية وتحكم عليهم بالموت”. تاريخ النشر 26 نيسان/أبريل 2015. رابط.
  2. محرم المرأة في الإسلام هو زوجها أو من يحرم عليها بسبب قرابة (أخ، أب، عم، ابن بالغ، ابن أخ…)، أو بسبب الرضاع، أو الصهرية، ويجب أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً. وكان تنظيم الدولة قد قيد حركة النساء في مناطق سيطرته، وفرض وجود محارم معهن في كثير من المواقف، كالتجول في الأسواق أو ركوب المواصلات.